بعد احتلال العراق في عام ،2003 وبعد أن أصبحت الولاياتالمتحدةالأمريكية جارا جديدا للدول العربية فإنها حاولت أن تقيم جدارا جديدا للثقة مع العالم العربي الذي أصبح ينظر إليها بتوجس كبير والذي ازدادت داخله مشاعر الكراهية والعداء للولايات المتحدة. وقررت واشنطن في سبيل الحفاظ علي أصدقاء الأمس في العالم العربي والذين خرجوا عن إطار التبعية المطلقة بعد أن حملهم الرئيس بوش مسئولية التطرف والإرهاب في العالم أن تضع سياسة جديدة قائمة علي محورين في تعاملها مع العرب. والمحور الأول تركز في الحديث عن الديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان وذلك لدغدغة عواطف ومشاعر الشعوب العربية وإقناعها بأن التغيير قادم وأن الولاياتالمتحدة هي التي ستقود الإصلاح الذين يبحثون عنه. وتمثل المحور الثاني في العمل علي تحسين صورة الولاياتالمتحدة لدي العرب إعلاميا ودعائيا وقررت لذلك تعيين مسئولة خاصة في وزارة الخارجية الأمريكية بسلطات واسعة وهي السيدة كارين هيوز لتكون مساعدة لكونداليزا رايس وهدفها أن تعمل علي تحسين صورة الولاياتالمتحدة في العالم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن الولاياتالمتحدة لم تنجح لا في هذا ولا في ذاك، فالحديث عن الإصلاح والديمقراطية ظل قائما لفترة وثبت أنه لم يكن هدفا ساميا بقدر ما كان ورقة ضغط وتهديد وإرهاب ضد الأنظمة العربية لمزيد من الخضوع والتسليم والمضي قدما في خطوات التطبيع مع إسرائيل الحليف الاستراتيجي لأمريكا في المنطقة. والحديث عن الإصلاح والديمقراطية توقف نهائيا أيضاً بعد نصيحة من إسرائيل لواشنطن بأن تتوقف عن المطالبة والبحث عن الديمقراطية في العالم العربي لأن الديمقراطية لن تأتي إلا بأنظمة دينية متطرفة علي غرار ما آلت إليه الانتخابات الديمقراطية الفلسطينية التي أتت بحركة حماس إلي السلطة..! ولم تكن إسرائيل بالطبع لتقبل وجود أنظمة أخري دينية علي حدودها ترفض فكرة وجود الدولة العبرية ولا تقبل بإقامة علاقات طبيعية معها. وفي محور البحث عن تحسين صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم فإن الوضع اتجه إلي الأسوأ بدلا من تلميع الصورة وجذب أصدقاء جدد. فالسيدة كارين هيوز طافت بالدول العربية وبحثت واستقصت ودرست ثم عادت إلي واشنطن بتصور بدأ تنفيذه بالإعلان عن انطلاق قناة "الحرة" الفضائية التليفزيونية التي تبث ارسالها باللغة العربية علي أساس أن العصر الجديد هو العصر الفضائي وأن العرب أصبحوا مفتونين بالفضائيات ويتابعون حواراتها بشغف عندما تقتحم المناطق والموضوعات التي كانت في سياق الممنوعات وأن "الحرة" يمكن أن تساهم في إبراز وجهة النظر الأمريكية وتدعيم التحولات الديمقراطية التي تتحدث عنها واشنطن. ولكن "الحرة" ولدت ميتة منذ اليوم الأول لولادتها، فكل ما يولد من بطن أمريكي يأتي محملا بإرث ورواسب الماضي ولا يمكن الوثوق به، لذا ظلت "الحرة" لدي الشارع العربي محوطة بالشكوك والشبهات ولم تكن لها مصداقية تذكر. ولما أدركت هيوز أن "الحرة" لا جدوي منها اتجهت إلي تبني خيار آخر وهو تدعيم وسائل الإعلام "المستقلة" والتي تتبني أفكارا ليبرالية تحررية وتتفق في سياساتها مع التوجهات الأمريكية، ورصدت الخارجية الأمريكية لهذا الغرض ميزانية ضخمة تتضمن إنشاء صحف جديدة أو تدعيم وسائل إعلام قائمة بالفعل. وشاهدنا في ذلك تحولات جذرية في سياسات بعض الفضائيات العربية التليفزيونية التي أصبح بعضها يتحدث بشكل أكثر تبعية للولايات المتحدة من قناة "الحرة" نفسها. وظهر عدد من الصحف العربية المستقلة التي تلقت دعما ماليا واضحا وصريحا من الخارجية الأمريكية والتي أحدث ظهور بعضها في بدايته نوعا من التغيير، ولكنه ظل محدودا إزاء عجز الولاياتالمتحدة أن تطور حملتها لتحسين صورتها بواقع جديد مختلف لسياساتها الخارجية. فعلي العكس من كل محاولات التلميع فإن الصورة الأمريكية أصبحت أكثر قتامة في العالم العربي مع إدراك الرأي العام أن الولاياتالمتحدة قد تخلت عن وعودها في الإصلاح وأنها لا تبحث فقط إلا عن مصالحها في المنطقة والمزيد من الخضوع والتبعية العربية وأنها تحمل العرب والمسلمين مسئولية أي عمل إرهابي يحدث في العالم. لذلك لم يكن مفاجئا أن تتقدم السيدة كارين هيوز المسئولة عن تحسين صورة أمريكا باستقالتها يوم الأربعاء الماضي وأن تعلن بذلك فشلها في مهمتها، فقد أدركت أنهم كانوا يريدون جهازا لخداع العالم ونشر المزيد من الأوهام والأكاذيب ولم يكونوا جادين فعلا في التغيير أو مساعدة شعوب العالم علي تحسين أحوالها. وأدركت السيدة كارين هيوز أنها لم تكن أكثر من واجهة لعلاقات عامة دولية بلا سلعة حقيقية تقوم بترويجها والإعلان عنها.. فما تحاول أن تقوله للعالم تجد نقيضا له في السياسات الخارجية الأمريكية التي تتحدث بلغة واحدة هي لغة القوة والتهديد بشن الحروب وملاحقة معارضي الولاياتالمتحدة في أي مكان في العالم والزج بهم أيضاً في سجون محلية أو دولية دون سند من قانون. وقررت أن تنسحب من الساحة السياسية ومن مهمة لم يكن مقدرا لها أن تنجح أبدا في ظل وجود وزيرة للخارجية كانت هي المحرك الأساسي لسياسات بوش وكانت وراء كل قراراته ومغامراته..! لقد أدركت هيوز أنها مجرد واجهة غير جميلة بالمرة فآثرت بشجاعة الانسحاب وهو ما تستحق عليه علي أية حال نوعاً من التقدير والاحترام وهو تقدير للقرار وليس لما كانت تفعله..! [email protected]