لا أدري حتي الآن لماذا يصر مجلس الشعب علي وضع هذا المشروع في ثلاجته الأرشيفية لمدي أكثر من خمس سنوات. والقصة بالفعل مهمة وخطيرة ولها أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأيضاً الثقافية. فمنذ تقدم أحد أعضاء مجلس الشعب باستجواب إلي وزير الصحة منذ حوالي عقد من الزمان عما يجري في قصر العيني وأخذ قرنية بعض الموتي لإجراء عمليات ترقيع قرنية للمهددين بالعمي، والحكومة الرشيدة آنذاك وبعد ذاك تضع علي الخبر "ماجور". يومها هاج المجلس وماج كعادته حول بعض القضايا الهامشية فلم يكن الاستجواب حول تردي أوضاع العلاج في المستشفيات أو مشكلات التأمين الصحي ومحاولة علاجها، بل لأن بنك العيون في مستشفي قصر العيني اعطي لنفسه الحق في أخذ قرنية أحد موتي الحوادث لترقيع قرنية مريض مهدد بالعمي، وهذا ما يحدث في غالبية بلدان العالم المتحضر بل والجنوبي أيضاً. ويومها أفتي من أفتي، وصرخ من صرخ بأن هذا ضد الشرع والدين، وكالعادة سارعت الحكومة الرشيدة إلي محاولة إطفاء الحرائق، والمزايدة علي من يرفعون شعارات دينية، مثلما جري مؤخرا في قضية الحجاب وقضية الدولة المدنية، ووضع المشروع في الثلاجة. ففي كل أنحاء العالم، بما في ذلك دول إسلامية مثل إيران والسعودية وتونس والمغرب والأردن، تجري زراعة الأعضاء للمرضي الذين يحتاجون إلي نقل قلب نابض جديد، أو كبد مقروحة قضت عليها الفيروسات أو كلي سليمة لمواصلة رحلة الحياة أو قرنية تضيء للإنسان الطريق وتعيد إليه النور والأمل، وهو ما يسمونه في العالم كله بقوانين تجديد الحياة. ولكن مصر التي كانت رائدة في يوم من الأيام في تلك المجالات، وهي في حالة التجريب، انتكست فيها الأمور في هذا المجال، والسبب صدور بعض الفتاوي الجاهلة والتي ما أنزل الله بها من سلطان قال بها البعض من مجموعة سوبر ماركت الفتاوي وأهاجت الرأي العام تحت دعاوي زائفة تقول بأن جراحة زراعة الأعضاء انتهاك لحرمة الجسد وتحد لمشيئة الله سبحانه وتعالي. ومع تقدم جراحة زراعة الأعضاء، أصبحت هناك إمكانات حقيقية لزراعة معظم أعضاء الجسم الأساسية مثل القلب والكبد والكلي، وشرعت الغالبية العظمي من الدول، بما في ذلك كثير من دول العالم الجنوبي والإسلامي في التوسع في هذه الجراحات الجديدة، وصدرت القوانين والتشريعات التي تتيح نقل أعضاء من يقضون نحبهم من ضحايا الحوادث وفي المستشفيات لإنقاذ مرضي يحتاجون لزراعة هذه الأعضاء حتي يعودوا للحياة مرة أخري. وفي أواسط الثمانينيات جرت معركة بين الشيخ متولي الشعراوي ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم حول عدد من القضايا كان من بينها قضية نقل الأعضاء إلي المرضي، وكان الشيخ في ذلك الوقت ضد هذه العملية تحت حجة أن في ذلك تدخلاً في مشيئة الرحمن، وفي أحد أحاديثه التليفزيونية قال متهكما.. حينما يرسل الله سبحانه وتعالي عزرائيل ليقبض روح أحدهم، هل يقول له.. انتظر يا سيدنا فسوف نركب له قلباً أو كبداً جديداً..!! ويشاء ربك القدير أن يمر الشيخ الشعراوي بوعكة صحية شديدة بعد فتواه بعدة أيام، سافر خلالها إلي مستشفي لندن كلينيك landan clink وهو أغلي مستشفي في بريطانيا وربما في العالم كله. وتم علاج الشيخ وعاد معافي إلي أرض الوطن، وأيامها وجدت نفسي أكتب حول موضوع جراحة زراعة الأعضاء، متمنيا أن يكون الشيخ قد عرف بعد المحنة الصحية التي مر بها، أن التطبيب والعلاج والشفاء هو أيضاً من مشيئة الله وليس تحديا لعزرائيل، ولم يرد الشيخ أيامها ولكنه غير رأيه في تلك القضية في أحاديث وفتاوي لاحقة. وفي ظل غياب قانون وتشريع، فتحت سوق سوداء للتجارة في الأعضاء البشرية ودخل الساحة أفاقون ومرتشون وتجار، تماما مثل تجار المخدرات والسلاح، يصطادون ضحاياهم من الأحياء الشعبية والفقيرة، ومن الطبيعي والأمر كذلك أن يدفع الثمن في ذلك كله أكثر من 5 ملايين مريض في حاجة ماسة وضرورية لعمليات نقل أعضاء مثل ترقيع القرنية وزراعة الكبد والكلي والقلب. ويموتون لأنهم غير قادرين علي دفع المبالغ والتكاليف الباهظة، أو تحمل نفقات السفر إلي الخارج للقيام بتلك العمليات في المستشفيات الصينية والسعودية والأردنية. وقد تحدث كثير من الأطباء المختصين حول ضرورة إصدار تشريع محدد حول هذه القضية يبيح نقل الأعضاء من ضحايا الحوادث والسكتة الدماغية الذين يتوفاهم الله في المستشفيات، واعتبار ذلك مهمة إنسانية اجتماعية تماما مثل دفع الضرائب، فلا يضير الجسد الميت ان يؤخذ منه قلب صالح أو كبد سليم أو قرنية شفافة، ننقذ بها ملايين البشر من أبناء الوطن المهددين بالعمي أو الموت. وهناك كما أشرت من البداية مشروع قانون مقدم لمجلس الشعب منذ سنوات طويلة ولم يناقش حتي الآن خوفا من أن يثير ذلك حفيظة البعض من أصحاب الفكر السلفي الجامد، ويكفي أن عددا من كبار العلماء في الأزهر قد ساندوا قضية زرع الأعضاء وعلي رأسهم شيخ الأزهر الذي أعلن تبرعه ببعض أعضاء جسده بعد عمر طويل. ولست في حاجة إلي تأصيل الفكر الشعبي والمستمد من أصول دينية صحيحة بأن الحي أبقي من الميت، وأننا أعلم بشئون دنيانا مثلما قال الرسول صلي الله عليه وسلم، وكفانا تخلفا ومرضا وفقرا في عالم يشهد ثورة علمية وتكنولوجية هائلة تغير الكثير من أوراق الماضي ومقولاته كما تؤكد عظمة العقل الإنساني وتستهدف تعميق إنسانية الإنسان. وقد آن لنا أن نخرج من حالة الكسل البدني والذهني الذي يحاول السلفيون وتجار الماضي فرضه علينا، لنعيش العصر ونشتبك مع قضاياه منتجين ومبدعين. وهل نطمع في أن يضع مجلس الشعب تلك القضية علي رأس أولوياته في الدورة القادمة.. دعنا نأمل..!