مثل ذكري "كربلاء" التي تتجدد فيها الأحزان علي مصرع سيد الشهداء الحسين بن علي، ويمارس فيها الشيعة كل طقوس الندم وجلد الذات .. مرت أمس الذكري الأربعون لهزيمة الخامس من يونية، "أم الهزائم" المصرية والعربية في العصر الحديث، والتي أصبحت مناسبة سنوية للتعذيب الوطني والقومي واجترار مرارات الانكسار ولطم الخدود وشق الجيوب وارتداء ملابس الحداد علي الكرامة الوطنية التي تم تمريغها في التراب في هذا اليوم الأسود وتحويل العالم العربي من المحيط إلي الخليج إلي سرادق كبير لتلقي العزاء. والعجيب أن طقوس "الاحتفال" بالذكري السنوية لهزيمة 5 يونية لم تتغير علي مدار الأربعين عاما الماضية، فهي تدور في الأغلب الأعم حول فكرة رئيسية خلاصتها أن هذه الهزيمة كانت نتيجة "مؤامرة" كبري تعرضت لها مصر والبلاد العربية من جانب الإمبريالية والصهيونية، وأن هذه المؤامرة الخارجية تساندت وظيفيا مع "خيانة" داخلية لعدد يزيد أو يقل من "الأفراد" من قادة الجيوش. وهذه الفكرة تجعل ذكري 5 يونية أشبه بحلقات "الزار"، لأن الدوران في فلك فكرة "المؤامرة" يبقينا في عالم "الأسطورة" الذي هو أبعد ما يكون عن "العقلانية" والتحليل العلمي لما حدث، كما يبقينا أسري للعجز الأبدي حيث تخرجنا نظرية المؤامرة من مجال "الإرادة" إلي إلقاء مسئولية الهزيمة علي قوي غامضة شريرة تتلاعب بمصيرنا ولا قبل لنا بمواجهتها، كما تخرجنا من مجال "المحاسبة" إلي "التلاسن" وتفريغ شحنات الغضب. نظرية المؤامرة تخرجنا باختصار من دائرة الموضوعية إلي فضاء الذاتية والخطايا الفردية والشخصية. صحيح أن للأفراد دورا .. لكن المسألة أعقد من هذا الدور الفردي، فهي أولاً وقبل كل شيء مسألة نظام كامل ولا يمكن اختزالها في شخص حتي لو كان هذا الشخص بوزن جمال عبدالناصر أو حجم عبدالحكيم عامر أو غيرهما. إنها مسألة الديموقراطية الغائبة، مسألة الشفافية المفقودة، مسألة المحاسبة الانتقائية، مسألة مدي عمق النظرة إلي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي الذي هو في المقام الأول صراع حضاري، بحيث لا نستطيع القول بأننا استطعنا إزالة آثار العدوان ووصمة الهزيمة إلا إذا تخلصنا من عار الأمية، وإلا إذا تغلبنا علي مؤسسة الخرافة المتحكمة في حياتنا من المهد إلي اللحد، وإلا إذا أعدنا الاعتبار إلي العلم والبحث العلمي واعتبرناهما منهج عمل في كل المجالات، وإلا إذا دفعنا استحقاقات دولة القانون بدءا من احترام الصغير والكبير لاشارات المرور وانتهاء بتكريس الدولة المدنية العلمانية الحديثة وجوهرها المواطنة والانتقال من الملة إلي الأمة. وهذا معناه أننا إذا لم نقم بإزالة آثار ومخلفات الدولة التقليدية البطريركية العثمانلية العتيقة سيظل حديثنا عن إزالة آثار عدوان 5 يونية 1967 ناقص المصداقية، وستظل ذكري هذه الهزيمة المروعة وجبة تعذيب سنوية وحفلة زار لجلد الذات واجترار الأحزان واستنساخ الإحباط. [email protected]