من فرط مشاهد الموت المجاني علي شاشات التليفزيون صار أمر افتقاد البشر عاديا. ولكن حين يتعلق الامر بواحد من المبدعين الكبار، فالإحساس بالمأساة يكبر ويتضخم ويمنع القدرة علي الرؤية أو المتابعة. اكتب ذلك بعد أن تلقيت خبر الحادث المؤلم الذي وقع عند الكيلو 66 في مدخل القاهرة، وفقدت مصر واحدا من كبار مبدعيها الشباب وأعني به المصور هاني الجويلي ابن الناقد التشكيلي الكبير كمال الجويلي. ولا احد يعلم مدي آفاق موهبة هاني، فهي موهبة بدأت في الصغر حين طلب من والده كاميرا فأهداه كاميرا بدائية تصلح لطفل في الثامنة من العمر، والتقط بها هاني مشاهد في أبوظبي حيث عاش طفولته هناك مع والده الذي قام بتأسيس أكثر من صحيفة وعمل لسنوات عديدة يهيئ المناخ للتطور الذي أراده من بعث دولة الامارات من وضع القبائل المتناثرة إلي وضع الامارات المتآزرة وأعني به الراحل الكبير الشيخ زايد آل نهيان. وحين شاهد والد كمال الجويلي إبداع طفله هاني، اصابه الذهول، فالوالد الصغير لا يصور لمجرد الضغط علي زر الكاميرا، ولكنه يري أولا روح الجمال فيما يصوره كي يضغط من بعد ذلك علي زر الكاميرا. وأصبح التصوير هو لعبة هاني المفضلة، وبه اقتحم كلية الفنون التطبيقية ليكون واحدا من الخريجين المتفوقين، ثم تشاء الظروف ان تبدأ بعثات الابداع التي أسسها الفنان فاروق حسني منذ سنوات، ليكون هاني واحدا ممن قضوا ثلاث سنوات سنوات هناك مع تأمل ودراسة كل جديد في تكنولوجيا التصوير الفوتوجرافي، والذي أصبح علما وفنا في آن واحد. هاني التقي بالشاعرة جيهان عمر، فعرف أنه يسكن في مشاعرها، وعرفت انها تسكن مشاعره. وتحركا معا ليعيشا الحياة بعمق ما فيها من جمال وصعاب، وهو من كانت عيونه تري روح الاشياء كي يصورها، فكل صورة التقطها كانت لوحة مبدعة، وهي الراقدة الان في الانعاش كانت تري الحياة قصيدة شعر. تعاون معي هاني الجويلي لمدة عام كامل اثناء تأسيس مجلة فنون مصرية التي تصدر عن وزارة الثقافة، وقام خلال العام بتصوير العديد من اعمال الفنانين، ولعل أروع من صور متحف مختار هو هاني الجويلي، حيث تنطق التماثيل بإبداع يعلم العين كيف تري نحت مختار العظيم، وأضرب هذا كمجرد نموذج لابداع الفنان الكبير. وكعادتنا حين نهمل تفاصيل العناية بالطرق، فنفقد البشر ومواهبهم، كان الطريق من الاسكندرية إلي القاهرة فاقدا كعادة طرقنا لإرشادات مضيئة في الليل، فوقع حادث لم يستطع هاني أن يتفاداه، كعادة طرقنا فكانت الكارثة التي لم يكن يتوقعها احد وهو أن يرحل الفنان الشاب صاحب التسعة والثلاثين عاما إلي خالقه يشكو له اهمال مخلوقيه في مصر المحروسة حين يهملون العناية بإرشادات الطرق، فضلا عن عدم وجود كشف جدي علي السيارات التي يستعملها المصريون اثناء التراخيص، وفوق ذلك عدم وجود رقابة علي زيوت الفرامل التي تباع في محطات البنزين، وعدم وجود أجهزة قياس لضبط ضغط الهواء داخل اطارات السيارات، وتكون النتيجة أن نفقد بشرا ومواهب. كنت قد وضعت في حسابي أن اكون واحدا ممن يتلقون العزاء في افتقاد هاني بجانب والده، ولكن ضغط الدم وارتفاع نسبة السكر قاداني إلي الرقود والعجز عن الحركة. تري متي نضبط التفاصيل الصغيرة في حياتنا كيلا نفقد مواهبنا الكبيرة؟ هذا هو السؤال المستمر الذي يغيب كثيرا عن بالنا وتوقظه حوادث مثل حادث افتقاد هاني الجويلي المبدع الشاب. أنا لا اسأل له الرحمة، لأن أبواب السماء لابد وأن تكون مفتوحة لاستقبال شهيد جليل وجميل، ولكني اسأل وزارة البترول ووزارة النقل عن ضرورة صيانة الطرق التي ندفع فيها ونحن نستعملها، هكذا وعدونا وهكذا ندفع، وهكذا نفقد مواهب يصعب تعويضها. ومن المؤكد ان السماء فتحت ابواب جنتها لهاني، ويبقي ان تفتح لنا أبواب رحمتنا لانفسنا فلا نفقد مواهب احببناها مثل موهبة هاني الجويلي.