استطاع المراقبون المتابعون لتصريحات جين - كلود تريتشت محافظ البنك المركزي الأوروبي (ECB) علي مدار سنوات عمله في هذا المنصب ان يتوقعوا اتجاه البنك الي رفع اسعار الفائدة عند اجتماعه يوم الخميس 7 ديسمبر وهو الامر الذي حدث بالفعل.. فالرجل كان دائم الحديث عن الحذر او الاحتراس القوي قبل كل مرة يتم فيها رفع اسعار الفائدة وهذا ما كرره قبل اسابيع قليلة من اجتماع 7 ديسمبر وجعل المراقبين يتوقعون رفع الفائدة. وتقول مجلة "الايكونوميست" ان معظم البنوك المركزية كانت حريصة منذ سنوات قليلة فقط علي ألا تعطي للمراقبين اية مفاتيح تسهل لهم استنتاج ما هي مقدمة علي اتخاذه من قرارات وحتي عام 1995 لم يكن بنك الاحتياط الامريكي ينشر سعر الفائدة المستهدف لصناديق الاستثمار الفيدرالية.. وكان علي الناس في الاسواق ان يتخذوا قراراتهم دون الاعتماد علي اية مؤشرات من البنوك المركزية تنير لهم الطريق.. بل ان مفاجأة الاسواق المالية برفع او خفض اسعار الفائدة كان يعد مسألة شرف بالنسبة لبعض البنوك المركزية.. اما الان فقد اختلفت الامور وصارت البنوك المركزية تعطي الاسواق بعض المعلومات المفيدة في توقع ما سيحدث.. فبنك الاحتياط الامريكي والبنك المركزي الاوروبي يستخدمان عبارات ذات دلالة واضحة مثل عبارة "الاحتراس القوي" التي سبق ان اشرنا اليها في تصريحات محافظ البنك المركزي الاوروبي وهي عبارات اشبه بشفرة سهلة الحل نسبيا. ولكن هناك بنكين مركزيين اكثر جرأة من هذا لانهما يعلنان مقدما عن اسعار الفائدة الخاصة بالشهر القادم او السنة القادمة او حتي السنة بعد القادمة.. وهذان البنكان المركزيان هما بنك أوف نيوزيلاندا الذي ينشر اسعار الفائدة المتوقعة علنا منذ عام 1998 وبنك النرويج المركزي الذي بدأ منذ العام الماضي 2005 ينشر اسعار الفائدة المتوقعة لثلاث سنوات قادمة. والسؤال المهم هو الي اي مدي يمكن ان تذهب البنوك المركزية في المفاضلة بين سرية وعلنية سياساتهم المستقبلية؟! الحقيقة ان البنوك المركزية اصبحت اكثر ميلا الي العلنية بعد ان تغير فهم الناس بكيفية عمل السياسة النقدية او تأثيرها علي الاسواق؟ فالفهم القديم كان يقوم علي نظرة او تصور ميكانيكي مؤداه ان رفع اسعار الفائدة سيؤدي آليا عبر البنوك واسواق السندات الي خفض الاقراض والانفاق والعكس ايضا بالعكس.. اما الفهم الجديد فيقوم علي ان السياسة النقدية تعمل اساسا من خلال التوقعات.. فالبنوك المركزية صارت تعتقد ان تحديد اسعار الفائدة مجرد جزء من عمل اوسع.. وان تمكين الاسواق والمستهلكين والشركات من توقع اسعار الفائدة المستقبلية يجعل التضخم دائما تحت السيطرة بمساعدة من الاسواق والمستهلكين والشركات معا. ولكن هل من المصلحة تعزيز هذا الاعتقاد الجديد؟! وكجزء من الاجابة علي هذا السؤال تقول مجلة "الايكونوميست" ان بعض البنوك المركزية تحدد نسبة معلنة لا يجب تخطيها لتضخم اسعار المستهلكين.. وبعض البنوك المركزية الاخري تعلن رسميا تصوراتها للعلاقة بين اسعار الفائدة والتضخم وغيرهما من المتغيرات الاقتصادية، كما ان بعض البنوك تقوم بشرح مجمل سياساتها في مؤتمرات صحفية منتظمة.. وسنجد ان البنك المركزي الاوروبي والبنك المركزي الانجليزي يتبعان الطرق الثلاث معا.. اما بنك الاحتياط الامريكي فلا يتبع اي من الطرق الثلاث وان كان ينشر محاضر جلسات تحديد اسعار الفائدة وهو ما يفعله ايضا البنك المركزي الانجليزي وان كان البنك المركزي الاوروبي لا ينشر مثل هذه المحاضر. وهناك من الاقتصاديين الان من يري ان علي البنوك المركزية ان تنشر علنا اسعار الفائدة المستقبلية ولا تكتفي بمجرد نشر تلك المعلومات التي تتيح فرصا اوسع للتوقع.. وعلي سبيل المثال فان لارز سفنسون الاقتصادي بجامعة برنستون يري ان مسلك البنك المركزي النرويجي هو النموذج الواجب الاتباع.. ويري ميخائيل وودفورد من جامعة كولومبيا ان تحديد البنوك المركزية لمعدل تضخم مستهدف يجب ان يصاحبه شرح علني لتوقعات هذه البنوك بشأن المستقبل فيما يخص السياسة النقدية وفي ورقة بحثية نشرت اخيرا اوضح جلين روديبوش وجون ويليامز خبيرا بنك الاحتياط بولاية سان فرانسيسكو من خلال نموذج نظري ان نشر البنوك المركزية لاسعار الفائدة المستقبلية يحسن اوضاع سياسة الاقتصاد الكلي. ويبقي هناك مجرد اعتراض تنظيمي علي هذه العلنية المستقبلية وهو ان اسعار الفائدة عادة ما تتحدد عن طريق التصويت في كل جلسة ولكن حل هذه المسألة بسيط ويمكن ان يتم عن طريق التصويت علي التوقعات المستقبلية هي الاخري.. وهناك اعتراض اخر وهو ان الاسواق يمكن ان تحول هذه التوقعات الي التزامات ثابتة وأكيدة وحل هذه المعضلة ايضا بسيط وهو الحرص علي ان تظل التوقعات مجرد توقعات قابلة لان تتغير حسب اية معطيات جديدة تستجد في الواقع.. ومع ذلك فان البنوك المركزية لم تزل حائرة بين العلنية والسرية في تحديد اسعار