من المؤكد أنك لا تعيش في هذا الكون وحدك، ولكن إن كنت من سكان القاهرة، فلابد أنك زهقت من الجيران ومن ضجيج الشارع، ومن السحابة السوداء التي غادرتها أنا إلي الولاياتالمتحدة. ولكن حين التقيت بأصدقائي في واشنطن، ونيويورك، وفلوريدا وفرجينيا أحسست أنهم يعانون من عذاب مختلف، إنه البحث عن معني للحياة، وسط حياة آلية تماماً. في بداية التواجد في لوس أنجلوس مدينة النجوم وهوليود كنت مندهشا من هذا الزحام الذي يزيد علي الآلاف أمام متحف بول جيتي الشهير لرؤية الأيقونات القادمة من دير سانت كاترين، وشاء حظي أن أحاول إرسال مقالاتي إلي "العالم اليوم" بالبريد الالكتروني، ولما كنت أنزل في فندق أربعة نجوم، لذلك طلبت منهم التواصل بالانترنت، وفوجئت بنوعية من المشكلات التي يمكن أن توجد في زيمبابوي أو الصومال أو أي بلد لم يخترع وسائل التواصل الحديث، فكيف أوجد في الولاياتالمتحدة، وفي مدينة هوليود التي تصور التفوق التكنولوجي للأمريكيين، كيف أكون هنا في قلب التكنولوجيا النابض كما يتوهم العالم كله، ثم لا أجد وسيلة للاتصال في فندق أربعة نجوم، ولا توجد وسيلة استطيع أن أرسل بها رسالة عبر البريد الالكتروني؟. قيل لي ادفع رهناً لجهاز "المحول" الذي يأتي لك بالانترنت، والمبلغ المطلوب مائة دولار، وقدمت بطاقة الفيزا كارد راضيا، وأخذوا المائة دولار، ولكن الشبكة لم تصل. أخذت أصرخ في مدير الفندق، وفي المسئولين عن إقامتي في لوس أنجلوس، فبدا لهم أن ما اشكو منه هو أمر عادي يمكن أن يحدث. أخيرا جاءت فتاة في الرابعة والعشرين سمراء، واستطاعت أن تتواصل مع شبكة الانترنت، وأرسلت ما أريد ارساله إلي القاهرة. ولأني محترف سفر ورحيل تحدثت مع من أعرف من الأصدقاء المصريين الذين صاروا أمريكي الجنسية، وقلت لفؤاد بشاي جراح التجميل من بعد عمليات السرطان: "هل أخذ التخلف جنسية الولاياتالمتحدة، وصار من حاملي البطاقة الخضراء؟". ضحك فؤاد قائلاً: تكتشف ذلك في الطب أكثر مما تكتشفه في تفاصيل الحياة اليومية، فقد تنازل الطبيب الأمريكي عن الحدس الإكلينيكي، وصار يعتمد علي المعدات الالكترونية، وأجهزة الفحص التي تضحك منها إيزابيل الليندي الروائية الشهيرة قائلة: "يقلبونك ويمدوا خراطيم متعددة في جسدك كي يقولوا لك أخيرا إنك سليم معافي اللهم إلا من نزلة برد"، نعم لقد سرقت التكنولوجيا الكثير من الذكاء البشري وأغرقتنا في بحر هائل من المعلومات التي قد لا نحتاجها، ولأن الولاياتالمتحدة هي أكثر البلدان اعتمادا علي التكنولوجيا، لذلك فمستوي الآلة يغلب ذكاء الإنسان في كثير من الأمور، فضلا عن أن سوء الرعاية الاجتماعية لمن يعملون بالقطعة أو بالساعة هنا في الولاياتالمتحدة، يجعل البشر يعيشون علي سطح من قلق عارم، وهذا ما يضاعف الأمراض، ويفقد العقل الكثير من القدرة علي التركيز. وهو ما نبه له كارتر، ثم جاءت فترة استغلال أحمق للضعاف والفقراء أيام ريجان، ثم جاء بوش لينتبه إلي العداء الخارجي أكثر من اهتمامه بالمواطن البسيط، ولم يستطع كلينتون إقناع الرأسمالية المتوحشة أن تتخلي عن الربح الفاحش مقابل الحياة في مجتمع آمن، وحين جاء بوش الابن كان هذا قمة إفقار الأمريكيين في الذكاء البشري، فقد أدار الرجل شئون أمريكا لا بالعلم ولا بالاحساس البشري، بل أدار الولاياتالمتحدة بما سماه الوحي الإلهي، وتلك قمة إفقار الأمريكيين لذكائهم، ولعل رسوب حزبه في الانتخابات لمجلسي النواب والشيوخ هو دفاع من الأمريكي العادي كي تحتفظ أمريكا ببعض من ذكائها القديم.