بالتزامن مع ذكري وعد بلفور المشئوم أعادت قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم الخميس الماضي احتلال بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة ومارست فيها كعادتها كل صنوف العذاب وأذاقت أهلها من الرعب والدمار كما لم تفعل من قبل وهذا في حد ذاته لم يعد بالأمر المستغرب بالنسبة لإسرائيل أو المفاجئ ليس لأنه جاء بعد إعلان حكومة ايهود أولمرت علي مصادقتها عليها عشية تنفيذها ولكن لأن إسرائيل التي لم تعلن يوما وقف اطلاق النار ضد الفلسطينيين لم تتوقف عن تنفيذ عملياتها العسكرية بما في ذلك في التوغلات والاجتياحات الموضعية منذ شهر يونيو الماضي. أرادت إسرائيل بهذا الاجتياح بث اشارات ارتبطت بتعثر المفاوضات الجارية بالوساطة المصرية حول عملية مبادلة الأسير جلعاد شاليت بأسري فلسطينيين، هذا التعثر الذي كلف حتي الآن الجانب الفلسطيني أكثر من ثلثمائة شهيد فإن الحكومة الاسرائيلية إن كانت قدفضلت الإعلان عن أهداف أخري متمثلة بضرب البنية التحتية لاطلاق الصواريخ في الشمال وتدمير انفاق تهريب الاسلحة في الجنوب تجنبا لتورط محتمل في الفشل في حال أعلنت كما فعلت في السابق في أمطار الصيف عن أن الهدف من العملية هو اطلاق سراح جنديها الاسير لدي فصائل المقاومة الفلسطينية فهي لا يمكنها أن تتجنب التقديرت التي تقول إن أحد أهم أهداف هذه العملية هو الضغط علي الجانب الفلسطيني لخفض سقف شروطه لاتمام صفقة تبادل الأسري. وما يؤكد هذا الاستنتاج هو أن العملية العسكرية الجارية تسير وفق سياسة التدرج في التصعيد للعمل العسكري بعد ساعات من البدء فيها ويبدو أن المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر في إسرائيل قد صادق ليس علي استمرار عملية غيوم الخريف فحسب بل وأيضا علي الاستعداد العملية عسكرية برية واسعة النطاق في قطاع غزة. لقد أرادت إسرائيل أن تفعل شيئا علي ما يبدو يجعل منها لاعبا مؤثرا في المفاوضات المحيطة لمحاولات اطلاق أسيرها الذي لم تنجح لا في اطلاقه بيدها ولا عبر الآخرين رغم مرور أكثر من أربعة أشهر علي أسره في منطقة جغرافية ضيقة ومحصورة وربما كمحاولة أيضا للتأثير علي الترتيبات الفلسطينية الداخلية كذلك ربما تكون قد سعت إلي أن تفعل ما من شأنه أن يعيد الدماء المتجمدة في عروض ما يسمي بجبهة الحرب العالمية علي الارهاب. والواضح تماما أن التعاطي الاسرائيلي مع قطاع غزة يختلف جوهريا مع التعاطي علي الضفة الغربية فإسرائيل لا تريد أن تري وجودا فلسطينيا سياديا أو مستقلا في الضفة المحتلة بما في ذلك قوات أمن فلسطينية قادرة علي ضبط الوضع في مدن وقري ومخيمات الضفة بينما الأمر يختلف في قطاع غزة فهي ترغب في أن يتحول القطاع إلي دولة فلسطينية ضعيفة تحكمها سلطة متطرفة منبوذة اقليميا ودوليا ومحاصرة وغير قادرةعلي تهديد إسرائيل بشكل جدي لذا فإن حربها في قطاع غزة يراد منها زيادة حدة التوتر الداخلي في رفع مستوي الصراعات الداخلية وليس صحيحا أن إسرائيل تستهدف "حماس" وحدها أوتركز عليها باعتبارها أولوية فإسرائيل تعلم تماما أين تتواجد قيادات حماس ومؤسساتها المهمة وهي لا تقترب منها ولكن علي المستوي الميداني فهناك استهداف لكل المقاومين من حماس وفتح والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية والديمقراطية وغيرها دون التفريق بين مناضل ومناضل. لكن وسط هذا القتل والدمار وأزيز الرصاص ودوي المدافع وأجساد الشهداء والجرحي الذين سقطوا دفاعا عما تبقي من وطن تنطلق رسائل عدة من هؤلاء البسطاء في كل الاتجاهات أبلغ وأفصح من رسائل القادة التي يتبادلونها مثل نهار عبر القنوات السرية والدبلوماسية وغيرها. الرسالة الأولي تقول إنه لا أمل في السلام فكل ما يجري علي أرض الواقع يدفع نحو الاعتقاد واليقين باستحالة تحقيق السلام مع إسرائيل المسكونة برغبتها العنصرية الجامحة في محو الوجود الفلسطيني والرسالة الثانية تقول إنه لن تفلح سياسة الغطرسة والغباء الاسرائيلي في كسر ارادة الشعب الفلسطيني فكم من مرة اجتاحت إسرائيل بلدة بيت حانون بالذات علي مد عمر السلطة الفلسطينية وتحديدا خلال سنوات انتفاضة الاقصي؟! إنها عشرات المرات إن لم تكن مئات فماذا كانت النتيجة لم تستطع إسرائيل كسر ارادة الشعب الفلسطيني مهما كانت آلة البطش العسكرية ومهما ازدادت حدتها وضراوتها. وأخيرا إذا كانت السياسة الاسرائيلية قد فشلت في كسر ارادة الفلسطينيين أو دفعهم إلي الاستسلام فإنها كثيرا ما نجحت في توحيد صفوفهم وتقويض خلافاتهم والعمليات العسكرية الاسرائيلية السابقة بجميع مسمياتها تشهد علي ذلك فقد وضعت هذه المحن جميع الفصائل المقاومة جنبا إلي جنب في مواجهة العدوان وهي رسالة ثالثة ومهمة قدمتها لنا بيت حانون الصامدة المرابطة.