احتلت مصر المرتبة رقم 165 في قائمة مؤشر تيسير الأعمال الذي أصدره البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية الأسبوع الماضي.. وبذلك تكون مصر واحدة من أسوأ 11 دولة ضمن 175 شملها المؤشر في سهولة القيام بالأعمال في العالم. إلي هنا ينتهي الخبر الذي ملأ صفحات الجرائد الأسبوع الماضي.. وتابعه وزير الاستثمار د. محمود محيي الدين بالأمس وربما لأول مرة بالتحفظ مطالبا البنك الدولي بتحديث أرقامه وتوسيع قاعدة المسح الميداني وعدم الاعتماد علي مكاتب محاماة وإنما علي الأرقام الموثقة.. مؤكدا أن حجم الاستثمار الأجنبي في مصر سيصل إلي 5.7 مليار دولار العام المقبل بعد مزيد من تحسين الإجراءات.. وإلي هنا ينتهي التعليق. وربما كان لدي الوزير بعض الحق في دفاعه عن حقيبته والإجراءات التي جاهد مع هيئة الاستثمار وزملائه الوزراء لتحقيقها لتيسير الأعمال، سواء إجراءات البدء في إنشاء الشركات أو المدة التي تستغرقها أو خفض البيروقراطية وقبلها جميعها خفض الجمارك والضرائب والتي أدت في النهاية إلي تضاعف أرقام الشركات في مصر بنسبة 100%، كما صرح ل "الأهرام" أمس.. وربما كان لديه بعض الحق في الاعتراض أيضا خاصة أن التقرير اعتبر دولا مثل العراق وفلسطين ولبنان تأتي في مراكز متقدمة عن مصر في جذب الاستثمار.. الأمر الذي يبدو صعبا في التصديق خاصة بالنسبة للدولتين الأوليين. لكنني توقفت عند سؤال مهم طرحه التقرير وأظن أن الحكومة المصرية بكامل هيئتها لا تفكر فيه كثيرا، حيث تشغلها المؤشرات والأرقام أكثر مما يشغلها حال الناس في الشارع.. أو أوضاعهم المعيشية.. فهذه الأرقام هي في النهاية ما يعرض علي الرئيس.. مؤكدين أن الإنجاز حقيقي، لكنه إما يحتاج وقتا طويلا كي يشعر به الناس أو أن العيب أساسا في المواطن الذي لا يشعر ولا يقدر!! هذا السؤال الذي طرحه التقرير يقول: ينبغي علي القائمين علي الإصلاح أيا ما كانوا أن يسألوا أنفسهم من هم الأكثر استفادة من الإصلاحات؟ فإذا كانت الإصلاحات لا تفيد سوي المستثمرين الأجانب أو كبار المستثمرين أو الموظفين الذين تحولوا إلي مستثمرين، فإنها تقلل من شرعية الحكومة.. ويتابع "يجب أن تخفف الإصلاحات العبء عن كاهل جميع الشركات الصغيرة والكبيرة، المحلية والأجنبية، الريفية والحضرية وبذلك لا تكون هناك حاجة للتخمين بشأن مكان الازدهار القادم في الوظائف.. فتكون هناك فرصة نجاح لأي شركة". وذاك هو لب المشكلة وجوهرها فالإصلاح الذي تعمل الحكومة علي تنفيذه هو إصلاح يستهدف الاستثمار الكبير والأجنبي.. يصلح مشاكل الأغنياء دون أن تكون لديه نظرة إلي الشركات المتوسطة أو صغيرة الحجم ودون أن يكون لديه في الأساس نظرة اجتماعية تحقق استفادة طبقات دنيا تحتاج إليه حاجة ماسة وإن كان لذلك حديث اَخر. فإذا عدنا إلي تقرير تيسير الأعمال الصادر عن البنك الدولي فهو في حقيقة الأمر يقف عند عدة مؤشرات جعلت مصر تحتفظ بالمركز رقم 165 دون تطور عن العام الماضي، فقال التقرير إن مصر التي كانت ضمن أفضل 10 بلدان في مجال الإصلاح بالمنطقة استمرت في الإصلاح ولكن بوتيرة بطيئة هذا العام. فمصر مثلا تأتي واحدة من أكثر الدول تعقيدا في إجراءات العقود في العالم، فتحتاج إلي 1010 أيام لإبرام تعاقدات فيما تأتي نيوزيلندا في المركز الأول "159 يوما". كما جاء الترتيب المصري في الأدني والأسوأ في حقوق التقاضي وسرعته خاصة مع غياب المحاكم الاقتصادية.. وعلي الرغم من ميزة انخفاض تكلفة العمالة المصرية فإن التكلفة الأخري غير المباشرة وضعت مصر في مرتبة متدنية من إجراءات العمل مع تعقيداتها تحت شعار "حماية حقوق العاملين" ففقدت العمالة المصرية ميزتها وجاءت مصر في مرتبة متدنية.. كما تعد مصر من أصعب الدول في إعلان الإفلاس أو إغلاق الشركات، ناهيك عن المشكلة الأكبر وهي الحصول علي التمويل من الأصل. كل ما سبق وغيره كثير من المؤشرات وضعت مصر في مرتبة متدنية من الدول التي يسهل القيام بالأعمال بها.. ربما كانت الأرقام غير محدثة.. وربما بالأرقام الجديدة يمكن أن يتحسن وضع مصر في المؤشر مركزا أو اثنين.. لكن الواقع يقول: ما تزال هناك مشكلة. لقد تمكنت الحكومة من جذب استثمار أجنبي بمعدلات مرتفعة تفوق معدلات الأعوام السابقة بشكل كبير، لكن معظم تلك الاستثمارات هي استثمارات ضخمة لشركات تستطيع أن تدفع الثمن وتتحمل التكلفة غير المباشرة.. أما الشركات متوسطة وصغيرة الحجم والمستثمر العادي فلايزال يقف أمام عقبات كثيرة.. ويبقي السؤال الذي لا تطرحه الحكومة علي نفسها كثيرا: من استفاد من هذه الإصلاحات؟! إن جذب مستثمرين أجانب هو أمر شديد الأهمية لكن يوازيه في الأهمية أن يشعر المستثمر المحلي الصغير والكبير أنه قادر علي العمل دون منغصات.. وأن يشعر المواطن في النهاية بنتيجة تلك الاستثمارات وعائدها.. وهذا ما يحتاج منا إلي وقفة حقيقية. وبدون ذلك ستظل ثمرة الإصلاح للكبير دون الصغير، وللحضر دون الريف، ويبقي مكان الازدهار القادم في حاجة كبيرة "للتخمين"، كما تظل "شرعية الحكومة" محل تساؤل. فإذا لم تصدق الحكومة كل ما سبق وأصرت علي أننا وصلنا سدرة المنتهي فربما سألت وزراءها من رجال الأعمال السابقين: هل ترون أن القيام بالأعمال في مصر أمر يسير أم أننا نستحق أن نبقي واحدة من أسوأ 11 دولة في المؤشر؟!