كثير من الاجتماعات الحكومية لا تستحق الذكر.. لأنها مجرد لقاءات بيروقراطية تخاصم الابداع وتعادي التحليق بالخيال إلي أحلام مستقبل مختلف عن العالم الذي نعيشه، وتكتفي بتبرير الأمر الواقع والحفاظ علي استمراره و"استقراره" مهما كان حافلاً بالعيوب والتشوهات ومسكونا بالفساد وشتي أصناف السلبيات. لكن لكل قاعدة استثناء .. وقد كسر المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة هذه القاعدة المملة في اجتماع عقده يوم الأربعاء الماضي لبحث كيفية ضبط تداول السلع في الأسواق، وبخاصة السلع التي يحتاجها المصريون خلال شهر رمضان الذي سيهل هلاله بعد أقل من ثلاثة أسابيع. والجديد في هذا الاجتماع أنه لم يقتصر علي كبار صغار وصغار كبار المسئولين في وزارة التجارة، بل إنه ضم أيضاً عدداً من التجار وأصحاب سلاسل المحلات وفي مقدمتهم محمد المصري رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية، أي شهبندر التجار. والجديد كذلك أن الاجتماع ضم مسئولاً يرأس جهازاً حكومياً يجري تشكيله - لأول مرة - وظيفته حماية حقوق المستهلك، بحيث سيكون سعيد الألفي أول من يحمل هذا اللقب في الإدارة المصرية عبر تاريخها الطويل. والجديد أيضاً هو إجراء حوار علني، ومفتوح، بين كافة الأطراف السابقة ، في حضور عدد من الصحفيين. وتفاصيل هذا الحوار منشورة في صحف الخميس الماضي، وبالتالي لا داعي للت والعجن فيها. لكن ما يلفت النظر في هذه التفاصيل عدد من الأمور الأساسية: أولاً - تبلور مفهوم متطور لدي الوزير رشيد محمد رشيد عن اقتصاد السوق، فبينما برر معظم المسئولين الحكوميين السابقين، والحاليين، كثيراً من الجرائم الاقتصادية باعتبارها من مقتضيات "حرية الاقتصاد" واحكام قوانين الاقتصاد "الحر" التي يجب أن "نسجد" أمامها ونلزم حدود الأدب أمام "قدسيتها"، أكد رشيد بوضوح لا لبس فيه أن الاقتصاد الحر لا يعني الفوضي، ولا يعني إطلاق العنان للممارسات الاحتكارية واغتيال المنافسة التي بدونها لا وجود للاقتصاد أصلاً ولا مجال لتفعيل قوانين العرض والطلب بصورة صحيحة. ثانياً- إن الاقتصاد الحر لا يعني استقالة الدولة من وظيفتها ودورها تجاه المجتمع والاقتصاد. بل إن مسئولية الدولة تزداد في الرقابة وضمان عمل آليات الاقتصاد بشكل يكفل حماية المنافسة وتوازن العرض والطلب دون آلاعيب أو عشوائية، وحماية حقوق المستهلك. وعلي سبيل المثال فإن أسعار سلعة مهمة مثل الأسمنت عندما ترتفع بصورة جنونية لا لشيء إلا لأن الأسعار العالمية أعلي من الأسعار المحلية، وأنه يوجد طلب من الخارج علي هذه السلعة التي يتم إنتاجها في مصر، فيلجأ التجار لرفع الأسعار مهددين بسحب الأسمنت من السوق المحلي وتصديره.. لا يمكن للدولة أن تقف مكتوفة الأيدي وتقول ان هذه هي "أحكام الاقتصاد الحر" ومقتضيات العرض والطلب. وهذا ما فعله رشيد محمد رشيد حين قال للتجار أنهم إذا لم يقوموا بتخفيض الأسعار إلي الحدود "المعقولة" فإنه بإمكان الحكومة وضع رسوم علي التصدير، او حتي منع التصدير بالكامل. وهذا مجرد مثال علي ما يجب أن يكون عليه دور الدولة .. لا أن تترك الأمور سداح مداح. ثالثاً- إن الأهم من القرارات الوزارية .. هو موازنة تقلبات السوق بآليات منع الممارسات الاحتكارية وحماية المنافسة من جانب، وحماية حقوق المستهلك من جانب آخر. وهاتان المسألتان بُحَّت أصواتنا منذ انتهاج سياسة الانفتاح عام 1974 علي ضرورة إعمالهما، انطلاقاً من أن آليات اقتصاد السوق حزمة متكاملة لا تتجزأ. ومع ان صيحاتنا راحت أدراج الرياح لما يربو علي ثلاثين عاماً فإن قانون منع الممارسات الاحتكارية وحماية المنافسة وقانون حماية المستهلك قد صدرا أخيراً .. بعد طلوع الروح. صحيح أنهما قد تأخرا جداً .. لكن أن يصدرا متأخراً أفضل من ألا يصدرا أصلاً. وصحيح أن صياغتهما والدفع بهما إلي مجلس الشعب تم في عهد حسن خضر ومن قبله أحمد الجويلي قبل تولي رشيد محمد رشيد الوزارة ، لكنهما صدرا علي يديه، ويحسب له أنه يحاول تفعيلهما. وهذا تطور تشريعي مهم يمكن أن تكون له آثاره الاقتصادية الخطيرة. لكن هذا التأثير الإيجابي المنشود يواجه نوعين من التحديات.