أعلن ذات مرة أنه يحب البهجة ويحب أيضاً الموت، لأنه جزء أساسي من الحياة. وأعلن أكثر من مرة أن حيرته الأولي والأخيرة تتمثل في أن البشرية لم تستطع التوصل إلي نظام سياسي يجمع بين الحرية والعدل معاً، بين الديمقراطية والوفرة في آن واحد. وحين بلغ إعجاب أبناء جيلي بالأستاذ حداً يفوق الوصف، كنت أعلم عن نفسي أني كاتب عاطفي لذلك آثرت الابتعاد عن الدوران في فلكه، ولم أنضم أبداً إلي دائرة المريدين، تماماً كما ابتعدت مع كامل الحب والاحترام من دائرة الجميل الرقيق الحاد صاحب البصيرة يوسف إدريس، فلم أكن مستعداً للدوران في فلك أي نجم مهما كبر حجمه، فمسئولية الدوران في فلك أي كائن مسألة حذرنا منها العظيم حقاً وصدقاً إحسان عبد القدوس. ولكن ظلت قراءة نجيب محفوظ في كل حرف يكتبه هي أمر يقترب من احترام النفس، فقد قرأت أولي رواياته التي وقعت في يدي "زقاق المدق" وأنا في الثانية عشرة، ثم قرأت بعدها كل حرف من حروفه، لأنه كان يهديني عالما أحبه وأجهله هو عالم الحارة المصرية بالقاهرة، فأنا ابن الإسكندرية، وحين كتب "الشحاذ" كنت عاشقا للموقف الذي دار بين البطل وبين تمثال سعد زغلول، وكنت أحب تمثال سعد كقطعة فنية تحمل كل تطور الفن، وتحمل في آن واحد ملامح الفرعونية في هذا الفن الصعب والقاسي، فن النحت. ولست أنسي ما حييت كيف فضلت قراءة الثلاثية عن المذاكرة لامتحانات الثانوية العامة، لأن الرواية بأجزائها الثلاثة لم تقع في يدي إلا قبل الامتحان بأسبوعين، وقلت لنفسي "إن قراءة هذه الرواية بأجزائها الثلاثة يمكن أن تشرح كل العلوم حتي الكيمياء". وتعجب الأهل من ذلك، لكن أحداً لم يتدخل في أموري، وأخذت أقرأ فصلا في الرواية ثم أجد ما يربطه بعلم من العلوم المقررة، ولكني وقفت أمام الميكانيكا، فلم يستطع مخ السابعة عشرة أن يعثر علي علاقة بين الميكانيكا وبين شخصيات الرواية، وما أنقذني من الحيرة هو وجود كتاب الكيمياء العضوية علي المكتب لحظة غرقي في الحيرة، فقد كان الكتاب يتحدث عن الفارق بين الكيمياء التي تدرس تفاعل المواد داخل الجسم البشري أو داخل أي كائن حي، وبين الكيمياء التي تدرس التفاعل بين المواد المستخرجة ونستعملها في التجارب، الفارق أن كيمياء التفاعل داخل الجسم تتمتع بقوة مجهولة تسمي القوي الحيوية، بينما الكيمياء التي نستخرجها ونستعملها في المعامل لا توجد بها قوي حيوية، ولم يكشف أحد حتي كتابة كلماتي تلك أسرار القوي الحيوية. ولكن نجيب محفوظ نقل تلك القوي الحيوية إلي كلماته. لعله الآن وهو بين يدي ربه يعلم أن رحلة "عبد ربه التائه" انتهت فقد وصل عبد ربه إلي اليقين. لقد اكتمل نجيب محفوظ، وأصر علي أن يمهد لموته بمرض طويل كي لا يتركنا بمفاجأة قاسية فهو الرقيق حتي في اكتماله. اللهم ارحمنا بأن نقدس العمل مثلما قدسه الرجل الجميل الراقي.