"اللي يجيبه النمل في سنة.. ياخده الجمل في خفّه". هذا المثل الشعبي المصري يعبر عن واقع الحال خير تعبير. فكل الجهود التي تم بذلها، والمؤتمرات التي جري عقدها في الداخل والخارج، والبعثات التي تم إيفادها لطرق الأبواب هنا ودق الشبابيك هناك، والمطبوعات التي تم تكليف الخبراء بتدبيجها وتوضيبها وتغليفها بعد ترجمتها إلي كل لغات العالم الحية والميتة، وإنفاق الملايين للترويج للاستثمار في مصر وإغراء رأس المال الأجنبي بالمجيء إلي ارض الكنانة.. كل هذا يتبدد في دقائق وأيام معدودات كتلك التي تحتدم فيها أزمة القضاة وتتفاقم تداعياتها، وتوابعها. ويكفي ان يري المستثمرون العرب والأجانب صورة واحدة من الصور التي تبثها وكالات الأنباء والفضائيات العالمية، والتي تصور المواجهات الفظة بين آلاف من قوات الأمن المدججة بالهراوات وبين مئات من المواطنين العزل الذين جاءوا لمساندة القضاة ومؤازرة مطالبهم.. ويكفي أن يشاهد العالم الذي اصبح مفتوحاً علي بعضه ولم يعد فيه شيء محصنًا من الانتقال بالصوت والصورة في ثوان معدودات حتي لو وقع في بلاد الواق واق- يكفي ان يشاهد العالم قلب القاهرة وقد تحول إلي ثكنة عسكرية.. يكفي ذلك لكي نمحو بأيدينا في لحظات كل الجهود التي بذلناها علي مدار شهور وسنوات من اجل إقناع المستثمرين العرب والأجانب للاستثمار في مصر، علماً بان خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 2006/2007 - الصادرة في أبريل 2006 عن وزارة التخطيط والتنمية المحلية تستهدف استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة تصل قيمتها إلي 6 مليار دولار. فكيف نتوقع الاقتراب من تحقيق هذا الهدف بينما نقوم بتمديد حالة الطوارئ لمدة عامين، ونؤجل انتخابات المحليات لمدة عامين، ولا تتوقف بعض الجهات عن النفخ في نيران أزمة القضاة وزيادتها اشتعالا يوماً بعد آخر، مثلما تصر علي إطالة أمد المشكلة القائمة منذ اكثر من عشر سنوات مع نقابة المهندسين التي تضم أكثر من ثلث مليون مهندس، مثلما دأبت علي إثارة المشاكل مع الصحفيين بالمراوغة في تنفيذ وعد رئيس الجمهورية بإلغاء التشريعات التي تجيز الحبس في قضايا النشر. وإذا كانت هذه هي الرسالة التي نبعثها للعالم الخارجي.. فما هو رد الفعل الذي نتوقعه؟ إن المناخ الاستثماري في أي بلد هو محصلة عوامل كثيرة اقتصادية وتشريعية واجتماعية وثقافية وسياسية. ويمكن لعامل واحد منها ان يبطل مفعول باقي العوامل خاصة إذا كان هذا العامل يتعلق بالاستقرار. فما بالك إذا كان القضاة طرفاً في المشكلة، في حين انهم الملاذ الأخير الذي من المفترض ان يلجأ إليه المجتمع بكل طبقاته وفئاته لحل نزاعاته والامتثال لحكمه! هؤلاء النافخون في نيران أزمة القضاة، والذين يستميتون من اجل تصعيدها، لماذا لا يضعون في اعتبارهم ان كل دقيقة إضافية في عمر هذه الأزمة لها ثمن اقتصادي باهظ- الي جانب ثمنها السياسي بالطبع- وان هذا الثمن الاقتصادي ربما لن يكون وقتياً وانما يمكن ان تستمر البلاد في دفعه لسنوات من لحمها الحي ومن حق أبنائها وأجيالها القادمة في التنمية والتقدم؟! وإذا كان هذا الثمن المخيف وارداً بقوة حتي بالنسبة للبلدان التي تتمتع بأوضاع اقتصادية قوية نسبياً، فما بالك بأوضاع مثل تلك التي تعاني منها بلادنا حالياً. وهي أوضاع لا تعبر عنها التصريحات الرسمية التي دأبت علي ان "تعمل من البحر طحينة". وتعالوا نقارن هذه التصريحات الوردية بتلك الصورة التي رصدها الكاتب الكبير محسن محمد، حيث كان الصحفي الوحيد الذي تابع علي صفحات العدد الأسبوعي من جريدة "الجمهورية" يوم الخميس الماضي تفاصيل المؤتمر الصحفي الذي عقده دانكوف مدير مشروع "القيام بأعمال في مصر"، الذي هو جزء من أنشطة البنك الدولي. وأوضح محسن محمد ان ما قاله دانكوف في هذا المؤتمر سيكون أساسا للتقرير الذي سيعلن في شهر سبتمبر القادم، ويتضمن الإصلاحات الضرورية المطلوبة والتي يجب أن تتم لإنعاش المشروعات الجديدة وكيف تتم. قال الخبير الدولي دانكوف: * أي مشروع جديد في مصر يحتاج الي 34 يوماً حتي يمكن التصريح به، علماً بان ذلك يحتاج الي يومين فقط في استراليا و11 يوماً في المغرب. * عدد الدول التي تمت دراستها بالنسبة لتيسير قيام أعمال جديدة بها 155 دولة، كان ترتيب مصر بينها رقم 141، وهي من أسوأ الدول بالنسبة لتيسير إقامة المشروعات الجديدة بها. * مصر هي الدولة رقم 146 في الحصول علي قروض داخل مصر، والدولة رقم 142 بالنسبة لتنفيذ العقود التجارية. * أعلنت مصر أن كل تراخيص المشروعات والأعمال تتم في مكتب واحد.. وهذا لم يتحقق. * كل من يريد القيام بمشروع في مصر عليه أن يدفع 45 ألف جنيه مصري للحصول علي الأوراق اللازمة. والأهم من ذلك كله قول دانكوف: إن مصر تبدأ من نقطة ومستوي منخفض فهي متخلفة ثلاثين عاماً عن الدول التي تشجع الاستثمار. وقد أثبت الكاتب الكبير محسن محمد انه أكثر شباباً وأفضل لياقة مهنية من كل الصحفيين الشباب وغير الشباب الذين لم يلتقط بصر أحدهم هذه التصريحات الصادمة التي عقب عليها بقوله أنها "تجنبت ما نفعله ونردده في مصر من كلام الوزراء عن أننا حققنا معجزات. فنحن في بداية الطريق . ولا يزال أمامنا الكثير لنحققه. وبدون النقد الواضح الصريح.. لن نتقدم أبداً". فإذا كانت هذه هي حالتنا الحقيقية، وخلاصتها بدون لف أو دوران أننا "متخلفون ثلاثين عاما عن الدول التي تشجع قيام الاستثمار".. فماذا يكون عليه الوضع عندما نضيف اليه مظاهر الاحتقان التي أشرنا إليها؟! لذلك نقول لمن يضعون العصا في عجلة الإصلاح السياسي والدستوري، بما فيه إصلاح أوضاع السلطة القضائية وضمان استقلالها وإبعادها عن التسييس أو الأسلمة علي حد سواء، تأملوا هذه الحقائق المروعة وتدبروا عواقبها الوخيمة التي تتجاوز كل الحسابات الصغيرة والمناورات السياسية ضيقة الأفق لتهدد الأمن القومي في الصميم. ولعل رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة ومحمود محيي الدين وزير الاستثمار وعثمان محمد عثمان وزير التخطيط والتنمية المحلية وزياد احمد بهاء الدين رئيس الهيئة العامة للاستثمار.. هم اكثر من يشعر بخطورة الموقف .. فضلاً عن شعورهم بالحسرة والقلق علي الجهود التي بذلوها علي مدار شهور وسنوات.. ويرونها اليوم مهددة بالضياع تحت الأضواء الكاشفة لكاميرات الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية التي تنقل دبة النملة إلي جميع أرجاء الدنيا.. إذا لم يتم احتواء الأزمة ووقف التصعيد والعناد. [email protected]