جاءت الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين لتؤكد تدشين التحالف الاستراتيجي بين العملاقين الجارين وتعطي دفعة قوية للعلاقات الاقتصادية والسياسية بينهما. ففي هذه الزيارة التي وقعت فيه عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والحيوية المهمة، حرص الاتفاق علي مشروع ديناصوري عملاق وذلك من خلال مد خطين لأنابيب الغاز الروسي إلي الأراضي الصينية عبر منغوليا، هذا المشروع الذي قدرت تكاليفه المبدئية بعشرة مليارات من الدولارات، كما اتفق علي إعداد دراسة جدوي لمشروع عملاق آخر خاص بمد أنابيب البترول من سيبيريا إلي الصين. وهذه المشروعات الكبيرة المتغلفة بالطاقة والتي أزعجت الأوساط السياسية والاقتصادية الأمريكية باعتبارها غزواً روسياً لأكبر سوق مستهلك للغاز والبترول في العالم، تعلن أيضاً إنهاء دور القطاع الخاص الروسي في مجال الطاقة، فمن المعروف أن شركة يوكوس التي يمتلكها الملياردير الروسي اليهودي ميخائيل كودوركوفسكي كانت تستعد مع شركة بريطانية للقيام بهذا المشروع وذلك قبل أن يلقي القبض علي الملياردير الروسي بتهمة الفساد والتهرب من الضرائب ويوضع في السجن لمدد طويلة. والاتفاقيات التجارية والاقتصادية التي وقعها الجاران العملاقان في بكين في الأسبوع الماضي تهدف إلي زيادة التبادل التجاري بينهما من 26 مليار دولار سنة 2005 إلي 60 مليار دولار سنة 2010 كان التبادل التجاري بين البلدين سنة 2001 لا يتجاوز عشرة مليارات من الدولارات. ورافق هذه الاتفاقيات الحيوية الاستراتيجية اتفاقيات ثقافية خاصة وقد اعتبر الصينيون عام 2006 هو عام روسيا الثقافي في الصين، وقام فريق البولشوي المشهور بزيارات وجولات في عدد من المدن الصينية الكبري مثل بكين وشنغهاي وجوانشو، كما تقوم الفرق المسرحية الروسية الشهيرة مثل فرقة ستلاسلافسكي وفرقة مارلنسكي وفرق الأكروبات الروسية بإقامة حفلات في هذه المناسبة في جميع أرجاء الصين. وقد وصف الكاتب الأمريكي هواردفرنش الاتفاقية الأخيرة بين روسيا والصين في مجال الطاقة بأنها مشروعات ديناصورية ولها أبعادها الواسعة سياسياً واقتصادياً خاصة بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية، في حين يعلق اكس هسباويو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شنغهاي أنه خلال العقود الماضية، كانت الولاياتالمتحدة هي المحور الرئيسي لعلاقات الصين التجارية الخارجية، ولكن الصين الآن تحاول أن تلعب الشطرنج مع الجميع من روسيا إلي أوروبا وآسيا وحتي إفريقيا، واعتبر ذلك هو الخط العام لسياسات الرئيس الصيني الجديد هو جنتاو. لقد كان الرؤساء والزعماء الثلاثة الذين جاءوا في أعقاب المرحلة الماوية يستمد كل منهم أهدافه من الظروف التي نشأ فيها فكان دانج هسيابنج الذي عاش يدرس في باريس متأثراً بالثقافة الغربية بجناحيها الماركسي والليبرالي، أما زيانج زيمن الذي جاء بعده فكان مجرد تلميذ مخلص لدنج ومبادئه ودفعته ثقافته الروسية التي تعلم ودرس فيها إلي تحسين العلاقات مع روسيا. أما الرئيس الحالي هو جنتاو فقد تعلم ونما وتطور وعاش في الصين وفي الداخل وأحياناً في بعض الأقاليم الممتلئة بالمشكلات مثل التبت، ويعتقد الكثيرون أنه يعمل تدريجياً علي إحلال العلاقات الروسية الصينية مكان العلاقات الصينية الأمريكية التي كانت الأولي علي القائمة الصينية طوال العقود الماضية. وحتي قبل هذه الاتفاقيات العملاقة في مجالات حيوية مثل السلاح والطاقة من الصين وروسيا كان هناك مؤشر آخر يتعلق بالتقرير الذي أصدرته وزارة الخارجية الصينية عن حقوق الإنسان في العالم لأول مرة، والذي انتقد وبشدة الممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية والمعادية لحقوق الإنسان في سجن جوانتناموا الذي تشرف عليه القوات الأمريكية، وكذلك الممارسات المعادية لحقوق الإنسان في العراق وأفغانستان، كذلك التضييق علي الحريات العامة داخل أمريكا نفسها تحت دعوي محاربة الإرهاب. وهكذا تنعكس الآية، فبعد أن كانت الولاياتالمتحدة تضع الصين دائماً موضع الاتهام بالنسبة لاتهامات حقوق الإنسان وذلك في التقرير السنوي الذي تصدره الخارجية الأمريكية، أصبح الوضع مقلوباً أو معدولاً مما يؤكد أن الصين خلال السنوات الماضية كسبت المزيد من الثقة بالنفس والقدرة علي المواجهة كما تضاعف ثقلها الدولي الذي بدأ يكتسب أبعاداً جديدة. نحن هنا ولاشك ومع الاتفاقيات الروسية الصينية الجديدة أمام تحالف استراتيجي حيوي بين الجارتين الكبيرين واللتين تمثلان قرابة ثلث سكان العالم وتحتلان رقعة جغرافية تمتد من شرق أوروبا وجبال الأورال ووسط آسيا حتي شواطئ الباسفيكي وبحر الصين. ويمتلكان قدرات وطاقات بشرية إنتاجية هائلة كما أنهما عضوان أساسيان في النادي الذري ويمتلكان سوياً قرابة نصف الوجود من أسلحة نووية في الترسانات العالمية. الغريب أن يتم هذا التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين في هذا الوقت بالذات خاصة بعد أن تحلل الاتحاد السوفيتي وخرجت روسيا منذ أكثر من عقد من الزمان من عباءة النظام الشيوعي القديم، بينما كانت العلاقات بين العملاقين الجارين والاشتراكيين منذ بداية الستينيات وحتي انهيار وتحلل الاتحاد الوفيتي علاقات مشحونة بالتوتر والصراع المتصل الذي وصل إلي درجة الحرب الساخنة علي الحدود الطويلة الممتدة بينها والمتنازع عليها. والتحالف الجديد لا يقوم علي أسس أيديولوجية فليس هناك ما يجمع الصين التي مازالت تأخذ النظام الاشتراكي وتفخر بذلك روسيا التي خرجت من هذا النظام وارتدت عباءة وثياب الليبرالية علي الأسس الغربية، ولكنه تحالف يستند ولاشك إلي مصالح مشتركة كثيرة وعديدة بين البلدين وفقاً للمنهج البرجماتي السائد في كل منهما. واتجاه الصين للتحالف مع روسيا قد يكون مفهوماً ومفسراً في إطار المصالح المؤكدة لها في تأمين الحدود الواسعة والممتدة مع الجارة الكبري والتي استنزفت الكثير من الجهد العسكري والمالي في العقود الماضية، كذلك الاستفادة من التكنولوجيا الغالية خاصة في مجال الأبحاث والدراسات الخاصة بالذرة والطاقة والفضاء. أما اتجاه روسيا إلي الصين خاصة في عهد الرئيس بوش فهو الذي يثير بالفعل الكثير من التكهنات والتفسيرات خاصة أن روسيا كانت خلال السنوات الماضية مندفعة في الاتجاه غرباً والاعتماد علي الولاياتالمتحدة بشكل خاص في حل مشكلاتها الاقتصادية، ولكن يبدو أن القرار النهائي الذي توصل إليه الخبراء السياسيون والاقتصاديون والعسكريون الروس هو أن الاتجاه شرقاً والتحالف مع الصين هو الخيار الأوحد كحل لكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية. وخلال الأعوام الخمسة الماضية قفزت التجارة الثنائية بين البلدين من أقل من 5 مليارات دولار في أواخر التسعينيات إلي 10 مليارات دولار سنة 2001 ثم إلي 26 مليار دولار سنة 2006 ثم إلي قرابة 60 مليار دولار كما هو مخطط لها خلال الأعوام الثلاثة القادمة، وأصبحت هناك قاعدة عريضة لهذا التحالف من خلال المشروعات المشتركة بينهما في مجالات حيوية مثل الصناعات الكيماوية والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة الذرية والأقمار الصناعية ثم السلاح وأخيراً الطاقة والغاز والبترول. وهكذا يشهد العالم ميلاد قطب دولي جديد نشأ عن تحالف استراتيجي من دولتين كبيرتين علي أسس من المصالح المشتركة ولمواجهة أخطار مشتركة، فهل ينجح الاقتصاد فيما فشلت فيه الأيديولوجيا..!!