أخيراً، وبأغلبية كبيرة بلغت 170 دولة، وفي مواجهة معارضة الولاياتالمتحدة وحفنة من الدول، قررت الأممالمتحدة تشكيل مجلس دولي لحقوق الإنسان. ويجيء تشكيل هذا المجلس بديلاً عن لجنة حقوق الإنسان التي أنشئت منذ أكثر من ستين عاماً والتي كانت تضم 37 دولة ولم يكن لها وجود حقيقي علي الساحة العالمية، كما اتهمت تقاريرها السنوية بالانتقائية وعدم الشفافية. وتشكيل المجلس الدولي لحقوق الإنسان يعتبر أول خطوة إصلاح حقيقي لدور الأممالمتحدة خلال نصف قرن، كما أنه يعتبر أيضاً علامة خارقة علي المجالات الدؤوبة من جانب دول الجنوب الفقير علي إشاعة الديموقراطية في العلاقات الدولية. ويضم المجلس الجديد 47 دولة تنتخب بالأغلبية المطلقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة موزعة علي كل القارات والأقاليم الدولية 13 دولة أسيوية، و13 دولة إفريقية، و7 دول غرب ووسط أوروبا، و6 دول شرق أوروبا، و8 دول أمريكا اللاتينية. الغريب، ولعله من الطبيعي، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي طنطنت كثيراً حول حقوق الإنسان اتخذت موقفاً معارضاً لإنشاء المجلس الدولي لحقوق الإنسان وانضمت إليها حفنة قليلة من الدول منها إسرائيل وجزر المارشال ومكروتيزيا، تماماً مثل الموقف الذي اتخذته أمريكا وإسرائيل لدي إنشاء محكمة الجزاء الدولية لمحاكمة الذين يرتكبون جرائم في حق البشرية. لقد رفضت أمريكا وإسرائيل حتي الآن التوقيع علي إنشاء المحكمة الدولية التي صدر القرار بها سنة 1995 وبدأت في ممارسة أعمالها منذ أكثر من أربعة أعوام، وكانت ومازالت القضايا والانتهاكات والجرائم التي ارتكبت في البوسنة والهرسك هي القضية الأولي في المحكمة، وكان آخر المتهمين هو سلوفان ميلوسوفيتش رئيس الصرب السابق الذي أعلن عن موته في السجن في الأسبوع الماضي. وكان ومازال الاعتراض الأمريكي علي محكمة الجزاء الدولية ينصب حول بعض قوانين المحكمة التي تتعارض مع المبادئ الدستورية الأمريكية حسب تصريحات المتحدث الأمريكي الرسمي، تلك المبادئ الذي تخدم محاكمة أي من الرعايا الأمريكيين أمام محاكم غير أمريكية، وكان هذا هو السبب المعلن، ولكن السبب الرئيسي والذي أعلنه ممثل أمريكا في المناقشات التي سبقت إنشاء المحكمة الدولية هو التخوف من أن تقوم هذه المحكمة بمعاقبة ومحاكمة جنود وضباط أمريكيين ممن شاركوا في حرب فيتنام أو في مهام أخري في إفريقيا والشرق الأوسط وفي أمريكا اللاتينية تحت دعوي ارتكابهم لجرائم تنتهك الحقوق الأساسية للإنسان. وأمريكا التي ترفض وتجرم محاكمة أحد من رعاياها خارج الأراضي والمحاكم الأمريكية هي نفسها التي أصدرت في أوائل التسعينيات قانوناً ينص علي ضبط وإحضار أي إنسان في أي مكان في العالم متهم بارتكاب جرائم ضد المصالح والأشخاص الأمريكيين، وحتي قبل معتقل جوانتنامو سيئ السمعة والسجون السرية التي أقامتها المخابرات الأمريكية في عدد من الدول في شرق أوروبا وفي الشرق الأوسط لاستجواب وتعذيب الذين تتهمهم الولاياتالمتحدة بالإرهاب، كانت الولاياتالمتحدة قد قامت باختطاف رئيس جمهورية بنما وحاكمته علي الأراضي الأمريكية بتهمة الإضرار المتعمد بالمصالح الأمريكية، ومازال أورتيجا قابعاً في السجون الأمريكية حتي اليوم. كما امتنعت إسرائيل هي الأخري عن التوقيع علي محكمة الجزاء الدولية تحت دعوي أن هناك بنداً في قوانين المحكمة يعتبر أي تغيير ديموجرافي في أوضاع الأراضي الواقعة تحت الاحتلال بغرض توفيق الأوضاع الاستعمارية وطرد السكان الأصليين من أراضيهم بمثابة جريمة حرب ضد الإنسانية، وأعلن المندوب الإسرائيلي في المناقشات بوضوح أنه يخشي أن يطبق ذلك علي إسرائيل فيما يتعلق بالمستوطنات في الضفة الغربية في فلسطين. الأمر يتكرر وربما لنفس الأسباب والإدعاءات لدي إنشاء المجلس الدولي الجديد لحقوق الإنسان، حيث تعترض أمريكا وإسرائيل وتحت دعوي أن المجلس الجديد قد تكون لديه أغلبية معادية للمصالح الأمريكية، أما الأسباب الحقيقية التي يعرفها ويقول بها الكثيرون، بما فيهم محللون أمريكيون، أن أمريكا التي تتربع علي سقف العالم عسكرياً واقتصادياً حتي الآن علي الأقل تريد انتهاز هذه الفرصة النادرة في تاريخ العالم لتعميد وفرض مفاهيمها وقوانينها الخاصة بالنسبة لحقوق الإنسان وأيضاً بالنسبة للمحاكم الجنائية الدولية. ومفهوم السلام الأمريكي Paxa Americana الذي تسعي إلي تطبيقه الولاياتالمتحدة، هو في الواقع مستمد من المصالح الأمريكية ومتطلباتها، وليس وفقاً للأسس والمعايير التي يتفق عليها المجتمع الدولي، ولذلك اتهمت الولاياتالمتحدة في السنوات الأخيرة، حتي في جانب أقرب حلفائها الأوروبيين، بازدواجية المعايير سواء بالنسبة لحقوق الإنسان أم بالنسبة لمفاهيم الجرائم الدولية. ومن الغريب فيما يسمي بالعصر الأمريكي وتفرد الولاياتالمتحدة علي السقف العالمي أن تقف معزولة في الساحة الدولية في قرارات مصيرية مثل حقوق الإنسان وفي مواجهة أغلبية دولية كبيرة في الأممالمتحدة، فقد كان متوقعاً مثلما جري في المراحل الأولي التي أعقبت انهيار الثنائية القطبية أن تصدر قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن في اتساق تام مع الرغبات والإرادة الأمريكية، ولكن الأمر اختلف كثيراً بعد ذلك ووقفت أمريكا في كثير من القضايا الحيوية التي طرحت علي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشكل خاص في موقف معارض للأغلبية، وهو ما جري بالنسبة للعراق وبالنسبة لمحكمة الجزاء الدولية وأخيراً بالنسبة للمجلس الدولي لحقوق الإنسان. وإذا كان بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة يعتبر إنشاء مجلس حقوق الإنسان هو بمثابة ظهور دبلوماسية جديدة علي المستوي الدولي وهي دبلوماسية حقوق الإنسان، فان الولاياتالمتحدة تفقد الكثير من مصداقيتها في هذا الصدد خاصة وهي تصوت ضد إنشاء هذا المجلس ومعها حفنة محدودة للغاية من الدول التابعة مثل إسرائيل وموريشيوس وجزر المارشال وماكروتزيا. وعلي فكرة الترجمة الحقيقية لماكروتيزيا هي الدولة القزم حيث لا يتعدي سكانها 60 ألف نسمة وكذلك جزر المارشال..!