"مصر ليست علي شاشة الرادار الأمريكي" هكذا القي علي صديقي الكاتب الأمريكي المعروف جملة دون تزويق أو تجميل.. فالحقيقة دائما مزعجة.. لكنها لابد أن تقال. ماذا إذن علي تلك الشاشة المزدحمة؟! العراق، إيران، صفقة دبي للموانئ التي افشلها الكونجرس والانتخابات الداخلية في نوفمبر للكونجرس ووسط كل ذلك تبدو الإدارة الامريكية في حال من الاضطراب والتوتر لم تشهده من قبل، فخسائر العراق متوالية دون ظهور ضوء في نهاية النفق، والإدارة فقدت سيطرتها علي الكونجرس وكانت صفقة دبي للموانئ أكبر دليل علي ذلك.. وحماس تفرض واقعا جديدا في المنطقة لم يتوقعه الأمريكيون.. والتراجع في شعبية بوش وشعبية حزبه الجمهوري علي صفحات الجرائد كل يوم. وسط كل ذلك اختفت مصر من علي شاشة الرادار الامريكي.. ليس فقط لازدحام الصورة ولكن ربما لان الصورة المصرية لم تفرض تفاصيلها بالشكل الذي يريده الامريكيون الان! والحقيقة ان المواصفات الامريكية للصورة المثلي تتغير من وقت لوقت.. فمنذ سنوات كان الاصلاح الاقتصادي هو الأهم: الضرائب، الجمارك، مناخ الاستثمار، ثم اصبح شكل الدور الذي تلعبه مع الفلسطينيين بالضغط علي عرفات.. ثم انتقل الي سؤال آخر: هل انت حليفنا في غزو العراق؟! فلما انقضي كل ذلك اصبح للسؤال شكل آخر: هل انت حليفنا في الحرب علي الإرهاب؟! وعبر كل تلك المراحل كانت العلاقة المصرية الامريكية تتشكل فتظهر الصورة علي الرادار مرة وتختفي مرات. أما الآن فمواصفات الصورة يجب ان تتضمن كلمة "الديمقراطية" فبعد احداث سبتمبر ظهرت الديمقراطية كأهم مواصفات "الحليف" الأمريكي.. لا يكفي أن تصلح جماركك وضرائبك وتجذب الاستثمار لكن الأهم هو ان تبدو "علي الاقل في المظهر" دولة ديمقراطية. فذلك هو ما سيخفف الغضب ويجفف منابع الارهاب - كما يقولون - وبالتالي يحمي أمريكا من سبتمبر أخري. وهكذا فان مواصفات الصورة لا تنطبق علي الشأن المصري - كما يقول الامريكيون - "فأنتم تتقدمون خطوة وتتراجعون خطوات.. ويبقي السؤال هل يتغير شيء أم ان الأمور كما هي"؟! سؤال طرحه ينثان براون احد مسئولي مؤسسة كارناجي للفكر. والخطوة التي يري الامريكيون اننا تقدمناها كانت تغيير المادة 76 والانتخابات الرئاسية ثم بداية الانتخابات البرلمانية، اما الخطوات التي تراجعناها فهي كثيرة: تأجيل انتخابات المحليات، المرحلة الثانية والثالثة من الانتخابات البرلمانية "وما شابها من تدخلات إدارية"، التعامل مع اللاجئين السودانيين.. والحكم بحبس أيمن نور رئيس حزب الغد، ولكل ما سبق "لا ترقي" الصورة المصرية ان تجد مكانها علي شاشة الرادار الامريكي! ويصبح من الصعوبة بمكان ان يوافق الكونجرس علي بدء مفاوضات تجارة حرة في ظل تلك الاوضاع. ورغم ان اجزاء الصورة تبدو سليمة وربما للبعض منطقية، فان ازدواجية معايير الإدارة الامريكية لا تبدو منطقية فقد اقدمت الولاياتالمتحدة علي اتفاق تجارة حرة مع دول مثل الاردن والمغرب والبحرين وعمان وهي دول صغيرة - مقارنة بالسوق المصري - ظاهرها قد يبدو ديمقراطيا، لكن نظمها معروفة ولا تحتاج لمزيد من الايضاح.. فاذا واجهت المسئولين الامريكيين بذلك قالوا: "مصر دولة كبيرة يجب ان تعامل كما تعامل الدول الكبري.. بكثير من الحرص"!! والحقيقة التي يجهلها الامريكيون ان ايقاف مسيرة التجارة الحرة مع مصر هو في حقيقته ضرب لفريق الاصلاح وجائزة لما يسمون بالحرس القديم الحريص علي ابقاء الوضع كما هو عليه.. فالاتفاق او المفاوضات عليه كانت ستجبر الحكومة المصرية علي اصلاح العديد من الامور بسرعة اكبر مما تستغرقه دون ضغوط، كما انه سيؤهل الاقتصاد المصري ليكون منافسا دون الاحتماء وراء اسوار "المحلية" التي تكاد تقتله. اما الان فليبق الامر علي ما هو عليه.. وعلي الجانب السياسي، "نحن لا نقبل الضغوط" ولا نريد اتفاق تجارة حرة.. ولا نريد ان نكون علي شاشة الرادار الامريكي. الخسارة هنا مزدوجة.. لكن الخسارة الأمريكية قد تبدو علي المدي البعيد اكثر فداحة، ليس لاهمية السوق المصري.. ولكن لانها تواصل في خسارة حلفائها.. باستخدام عصا العقاب.. ثم يعودون ويسألون: "لماذا يكرهوننا؟".