يمكنك أن تسميه نفاقاً أو كما تشاء، ولكن يظل موقف السيناتور الأمريكية هيلاري كلينتون، المعارض لصفقة "موانئ دبي" مثيراً للدهشة والاستغراب علي أقل تقدير. فقد تكررت زيارة زوجها بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق، للمنطقة العربية، خلال السنوات الثلاث الماضية، واستطاع أن يجمع من ورائها أموالاً طائلة لقاء الأحاديث التي يدلي بها في المؤتمرات الدولية التي تعقد هناك، حتي أن البعض ذهب إلي تقدير عائداته من تلك المشاركات بملايين الدولارات. وللمزيد من التفاصيل فقد كان كلينتون ضيفاً منتظماً علي المنطقة، مشاركاً في المؤتمرات والمنتديات الدولية التي تعقد في كل من السعودية والإمارات، مع العلم بأنه يتقاضي مبلغ 500 ألف دولار عن كل زيارة، علاوة علي الامتيازات الأخري التي يحظي بها مثل الطائرة الخاصة التي تقله، واستضافته في أرقي وأفخم الفنادق الشرق أوسطية. هذا ويقدر الاختصاصيون الماليون دخل كلينتون من تلك الزيارات، بما يتراوح بين ثلاثة وأربعة ملايين دولار، خلال الفترة المذكورة، بما في ذلك عائدات الاستشارات التي يقدمها لعدد من الدول والحكومات العربية. ومهما تكن الثقافة التي ينحدر منها الإنسان، فليست ثمة صعوبة في أن يفهم المرء مغزي تلك الحكمة الشعبية القائلة "لا تعض اليد التي تطعمك". ولمجرد الوقوف علي المعني المقصود هنا، فلنذكر أن ثمة اتفاقا دوليا ضمنيا ما، يمارس بموجبه السيد كلينتون عمله الذي يدر عليه أموالاً وثروات طائلة، مقابل توظيفه لسمعته ونفوذه في تذليل وتعضيد علاقات التعاون العربي- الأمريكي، في عصر يتعاظم فيه الدور الذي تلعبه الدول العربية الخليجية في اقتصادات السوق والعولمة. ولذلك فإن المرء ليتعجب متسائلاً: ما الذي يحدث في عائلة السيد كلينتون؟! فهل في وسع الزوج الاستمرار في التعاون مع العرب ونيل أموالهم ومراكمة ثرواته لقاء ذلك التعاون، في الوقت الذي تتشدد فيه زوجته السيناتور عن ولاية نيويورك، في معارضتها لصفقة "موانئ دبي العالمية" إلي هذا الحد؟ إنه علي كل حال تنافر صارخ بين الموقفين! والمعلوم أن شراء النفوذ هو تقليد دولي معروف ولا غبار عليه، بحكم كونه نابعا من الطريقة التي يدار بها العمل والاستثمار، بصرف النظر عن العامل الثقافي، سواء كان في الغرب أم الشرق. ولذلك فقد كانت صدمة كبيرة بالنسبة للعرب أن يروا ويتابعوا شراسة ردة فعل الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين، إزاء الخطوة التي اتخذتها شركة "موانئ دبي" عبر صفقة تبلغ قيمتها 6.8 مليار دولار، للاستحواذ علي المهام والمسئوليات الإدارية التي كانت تقوم بها شركة "P & O" البريطانية. وكما نعلم فقد انصبت الاعتراضات كلها علي الصفقة المذكورة، بزعم أنها تشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، بما قد تفتحه من منافذ واحتمالات لتوجيه ضربة إرهابية جديدة للولايات المتحدة. ولكن هل تستقيم وتتسق هذه المخاوف والمزاعم ،مع حرية الطيران والإبحار التي تتمتع بها الطائرات والسفن الحربية الأمريكية في الدول العربية؟ وهل من المنطق القول بأن انتهازية السيدة كلينتون ورغبتها في الاستثمار الانتخابي لهذه الصفقة، هما اللتان تدفعانها لمعاداة الصفقة والتشدد ضد إكمالها وتنفيذها إلي هذا الحد، أملاً في توظيف الهستيريا الأمريكية المعادية للعرب، في تقريب المسافة إلي الكرسي الرئاسي الذي تتطلع إليه خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ لاشك أن ردة فعل السيدة كلينتون إزاء الصفقة المذكورة، ليست أقل من مجرد تعصب عنصري ضد العرب بأي حال من الأحوال. وإن لم يكن كذلك، فكيف نفهم قبولها وقبول غيرها من المعترضين المتشددين علي صفقة دبي، للتدفقات الهائلة للاستثمارات الآسيوية والأوروبية إلي داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ ومما زاد الطين بلة، دخول وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت إلي قائمة مجموعات الضغط المؤيدة لصفقة دبي، طمعاً منها هي أيضا في نيل مزيد من أموال العرب. والمؤسف هنا بالطبع أن السيدة أولبرايت قد أمضت الجزء الأكبر من توليها لمهام خارجية بلادها خلال فترة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، في فرض العقوبات تلو العقوبات علي الدول العربية والإسلامية، بما فيها إيران والعراق وسوريا وأفغانستان، مصحوبة بإساءتها المستمرة للعرب والمسلمين. وها هي تتحول اليوم وبقدرة قادر، إلي حليف ونصير للعرب. خلاصة القول من كل هذا، هي أنه في وسع الأمريكيين ابتذال أنفسهم إلي هذا الحد، والتعبير عن تناقضاتهم الصارخة علي نحو ما رأينا في صفقة موانئ دبي، باعتبار أن ذلك الابتذال هو جزء لا يتجزأ من وصفتهم الديمقراطية التي يحاولون تمريرها قسراً إلي الدول الأخري. ولكن ما هو وجه القصور الذي أحاط بإجراءات عقد هذه الصفقة وإكمالها بعيداً عن كل هذه التعقيدات والاعتراضات التي لا أساس لها من الصحة؟ لقد كان ولا يزال في مقدور دبي، بكل ما عرفت به من حداثة وتسامح اجتماعي وثقافي، أن توجه الدعوة إلي عدد من أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين، إلي جانب الاتحادات المهنية المعنية بتشغيل الموانئ المذكورة، قبل عدة أشهر من بدء إجراءات صفقة الشراء، كي يري هؤلاء بأم عيونهم ما إذا كانت دبي واحة ليبرالية منفتحة وذات توجه غربي بحق أم لا؟ مع العلم بأن هذه لم تكن الصفقة الدولية الاستثمارية الأولي التي تعقدها "موانئ دبي العالمية". وضمن هذه الصفقات، فقد اشترت دبي خلال العام الماضي مجموعة 21 ألف شقة وعقار داخل الولاياتالمتحدة بقيمة مليار دولار أمريكي. كما أن لدبي نسبة 2.2 في المائة من إجمالي أسهم شركة ديملر كرايسلر العملاقة للسيارات، وهذه تبلغ قيمتها مليار دولار أخري. ومن بين الاستحواذات الإماراتية الضخمة، شراؤها لمجموعة Madame Tussaud البريطانية، بتكلفة مالية تصل 1.5 مليار دولار. أما من جانبها، فقد كان من واجب إدارة الرئيس بوش، التي جعلت من الحرب علي الإرهاب هدفاً أساسياً لها، أن تمارس ما يلزم من وضوح وشفافية، في شرح أسباب ومبررات تأييدها لإبرام الصفقة، وطبيعة التعاون والعلاقات التي تربط بين أمريكا ودولة الإمارات في مجال مكافحة الإرهاب. وفيما لو كانت دولة الإمارات صديقة حقاً لأمريكا، فإن من حقها أن تعامل بكل اللياقة والحفاوة اللتين يعامل بهما الأصدقاء. "عن وجهات نظر"