منذ انتهاء عصر الحرب الباردة بأفول أحد قطبي هذه الحرب، وظهور ما أسماه الرئيس الأمريكي بوش "النظام العالمي الجديد" الذي تهيمن فيه بلاده علي مقادير العباد، لكونها القوة الأعظم والأوحد في هذا العالم، انتابت عديداً من مثقفينا حالة من التسليم بالأمر باعتباره قضاء وقدراً يلزمنا أن نستنيم إليه، ونعلق عليه جميع خيباتنا، باعتبار أننا لا حول لنا ولا قوة في مواجهة قوة مهيمنة عظمي تمتلك ما لا قبل لنا به، وترددت نغمة أن الهامش الذي كان متاحاً أمامنا للمناورة في وجود قطبين يمكن أن نستقوي بأحدهما في مواجهة الآخر لم يعد موجوداً، ومن ثم فلا سبيل أمامنا سوي التسليم بما يطلبه منا "الكبار"، ولم يعد من حقنا حتي إبداء التململ من تدخلهم في شئوننا الداخلية، وفرض الوصفات التي "يضعونها هم" لإصلاح حالنا، حتي لو استلزم الأمر اجتياح بلاد "الصغار" الذين لا يبدون طاعة في تنفيذ هذه الوصفات، بداية من وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين وانتهاء بوصفات الإصلاح السياسي، وصار من قبيل "التجديف" مجرد التساؤل عما وراء هذه الوصفات من مخططات تحقق مصالح هؤلاء "الكبار" أو أطماعهم، ولم تلبث أن تزايدت خلال السنوات الأخيرة نبرة تحسر العرب علي حالهم وشكواهم من قلة حيلتهم وهوانهم علي الناس، وانقسم القوم بين فئة باتت تري أن الحل الوحيد لن يكون إلا بتدخل هؤلاء الكبار لإخراجنا مما نحن فيه ولو بالقوة المسلحة ولا يري هؤلاء بأسا في قتل مئات الآلاف من أبناء الشعوب أو نهب بعض مواردنا، أو تخريب حضارتنا والبني الأساسية لدينا علي يد غازٍ جل همه هو تخليصنا من آفاتنا وعيوبنا! وبين فئة أخري راحت تتحسر علي ما فات وتحلم بمعجزة ظهور "صلاح الدين الأيوبي" جديد يوحد العرب للوقوف في وجه الطامعين. شعارات ليست مستهلكة وبين هؤلاء وهؤلاء، لم نلتفت إلي ما يحققه آخرون، لم ينتظروا إصلاحاً لأحوالهم يأتيهم من خارج الحدود، ولا معجزة ظهور "مخلص" فرد يبعث الروح في الكسالي ويقودهم لتحقيق أحلامهم، أقصد بذلك ما نشهده يومياً ونتعامي عنه من حراك مستمر في بلدان أمريكا اللاتينية للخروج من ربقة الاستغلال الذي تمارسه القوة الأعظم وحلفاؤها عبر سياساتها الخارجية وأساليبها الدبلوماسية ووكالة مخابراتها حماية لمصالح وأطماع الشركات المتعددة الجنسيات، ولاشك أن هذه الشعوب الراغبة في التحرر وفي حماية مواردها من النهب تعلم تماماً مما سيجره عليها ذلك من مواجهات مع قوي طالما أظهرت أنيابها لكل من أراد شق عصا الطاعة. ففي كوبا التي تخضع لحصار اقتصادي أمريكي طال نصف قرن تقريباً، ورغم حملة التشويه التي يشنها الإعلام الغربي علي النظام الكوبي برئاسة كاسترو الذي يصوره هذا الإعلام في صورة عجوز مخرف يقمع شعبه الذي يسعي للهروب من استبداده، مازال هذا العجوز قادراً علي أن يعلن رداً علي محاولات الاتحاد الأوروبي ربط المساعدات المقدمة لهافانا بإصلاح علي المزاج الأوروبي "إن حكومة كوبا تتخلي عن أية مساعدة أو بقايا مساعدة إنسانية يمكن أن تقدمها المفوضية الأوروبية وحكومات الاتحاد الأوروبي التي تتوهم مواصلة الحوار السياسي" وأكد كاسترو: "أن بلادنا لن تقبل مساعدات من هذا النوع، علي تواضعها إلا من سلطات مستقلة إقليمية أو محلية، أو من منظمات غير حكومية وحركات تضامنية لا تفرض علي كوبا شروطاً سياسية" فضلاً عن شعارات هذا "العجوز" المتحدية للهيمنة الأمريكية. وفي البرازيل وجد رئيسها "لولا دا سيلفا" المنتخب ديموقراطياً، رغم أنف الجهود الأمريكية التي سعت لإسقاطه خلال العامين الماضيين الجرأة المستندة علي التأييد الشعبي لجهوده نحو حماية سيادة بلاده ومواردها لأن ينذر المسئولين الأمريكيين بعدم التدخل في شئون بلاده قائلاً: "ليس من حق الولاياتالمتحدة إعطاء رأيها حول ما يجري لدينا.. ينبغي احترام هذا البلد، نحن لسنا مستعمرة"، وفي قمة الأمريكتين التي عقدت في الأرجنتين -نوفمبر الماضي- لم يتردد نيستور كيرشنير، رئيس الدولة المضيفة أن يقول في خطاب افتتاح القمة وبحضور الرئيس الأمريكي إن الولاياتالمتحدة تتحمل مسئولية "لا مفر منها ومتعذراً تبريرها" عن سياسات أدت إلي الفقر والمأساة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية، وهاجم كلا من ضغوط واشنطن علي بلدان القارة الجنوبية وسياسات صندوق النقد الدولي الخاصة بالإصلاح الهيكلي، وفي نفس المناسبة هاجم هوجو شافيز الرئيس الفنزويلي ما أسماه "غدر الولاياتالمتحدة وغشها" كما رددت وكالات الأنباء الشعارات التي رفعها الرئيس البوليفي موراليس "لانريد العيش علي مساعدات الصناديق الدولية بينما تزخر بلادنا بالثروات الطبيعية" و"لابد من تأميم بعض الشركات المتصلة بحياة المواطنين الأساسية وفي طليعتها شركة المياه التي تسيطر عليها بكتل الأمريكية" و"لابد لورقة الكوكا من أن تهزم ورقة الدولار"، ويدرك المعنيون بالأمر، وعلي الأخص القوي المتحكمة في سياسات البيت الأبيض أن هذا النوع من الشعارات، ليس من قبيل الشعارات الثورية العاطفية، التي درج علي إطلاقها بمثالية زعماء حركات التحرر الوطني في الستينيات، وإنما هي شعارات تعتمد علي أوراق ضغط يملكها أصحابها ويعرفون أن بإمكانهم استخدامها، وهم مصرون علي الاحتفاظ بما لديهم من أوراق اللعبة دون أن يقعوا في وهم أن معظم هذه الأوراق بيد سكان البيت الأبيض. الفقراء لهم أنياب فحكام أمريكا اللاتينية اليساريون يدركون تماماً حرص واشنطن علي قيام منطقة التجارة الحرة للأمريكتين (افتا)، وهو المشروع الذي يواجه عائقاً متمثلاً في ال "ميركوسور" الذي كونته مؤخراً البرازيل والأرجنتين وأوروجواي وباراجواي، وقد أعلنها شافيز قوية في اجتماع قمة الأمريكتين أن فيتا "ميتة ونحن ندفنها هنا"، ولاشك أن شعور الولاياتالمتحدة بالخطر يتزايد مع زيادة متانة العلاقات بين دول "ميركوسور" مع أوروبا والصين، أضف إلي ذلك ما بات يهدد الهيبة الأمريكية بعد عقود طويلة من نجاح واشنطن في فرض العزلة علي كوبا، حيث صوت 182 من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر لصالح إنهاء الحصار الأمريكي لكوبا مقابل أربعة أصوات لصالح الحصار. ولاشك أن القوي المسيطرة علي الحكم في الولاياتالمتحدة تتحسب حالياً لما يعنيه وصول قيادات يسارية إلي سدة الحكم في البرازيل صاحبة أكبر اقتصادات أمريكا اللاتينية وفنزويلا خامس أكبر مصدر للبترول في العالم والتي تمتلك مع بوليفيا أكبر احتياطيين للغاز في القارة الجنوبية، ولاشك أيضاً أن الشركات الضخمة المتحكمة في قطاع الطاقة تدرك ما يعنيه التحالف بين شافيز وموراليس من خطر يتهدد أطماع هذه الشركات في السيطرة علي موارد الطاقة في القارة، وهو ما يختصره موراليس في صيحته "نريد شركاء لا أسياد في بلادنا". وهكذا تدل جميع الشواهد علي أن المذهب الذي أعلنه الرئيس مونرو عام 1823 والذي تحولت دول أمريكا اللاتينية بموجبه إلي شبه محميات خاضعة لنفوذ واشنطن، يلفظ أنفاسه الأخيرة مع انفراط عقد هذه المحميات مع تولي اليساريين سدة الحكم في سبع دول من القارة التي كانت تمثل الفناء الخلفي للولايات المتحدة، ومع توقعات بعودة دانييل أورتيجا رئيس جبهة ساندينستا اليسارية إلي الحكم في نيكاراجوا. خلاصة القول، إن دروس التاريخ التي لخصها قول الشاعر "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع"، تؤكد أن عصر الهيمنة الأمريكية في طريقه إلي زوال قريب، وأنه آن أوان إعادة الحسابات والبحث الجدي عن فرصنا للعيش في عالم ما بعد عصر القطب الأوحد، أو ما بعد الحلم الأمريكي في أذهان البعض! [email protected]