اليوم المشئوم عند الكثيرين منا هو يوم الاحالة للتقاعد بالوصول إلي سن المعاش، فمازال البعض ينظر ويتعامل مع هذا اليوم علي أنه بداية العد التنازلي في انتظار الموت. ونحن نفتقر في ذلك إلي ثقافة التقاعد، التي تقنعنا بأن الحياة تبدأ بعد الستين، وأن هناك الكثير مما لم نستطع أن نحققه في رحلة الجري والصراع مع الحياة والوظيفة يمكن أن نحققه مع الراحة من كل هذه الضغوط والمسئوليات والاستمتاع بما بقي في العمر. ولا يمكن اغفال أن العامل المادي يلعب جانبا كبيرا في مخاف الذين يصلون إلي سن التقاعد، فالمعاش وحده في كثير من الأحيان لا يكفي لمواجهة أعباء الحياة خاصة إذا كانت المسئوليات الحياتية مستمرة في رعاية الأبناء والأحفاد أيضا، والاحالة علي المعاش تعني الحرمان من كثير من الامتيازات والمكافآت والتسهيلات التي كانت توفرها الوظيفة. ولعل هذا يفسر سر سعي الرجل الغربي إلي التقاعد المبكر واصرار الرجل الشرقي علي مد الخدمة بأي وسيلة، فالأول سيعيش ميسور الحال بعد التقاعد بما يمكنه من الطواف حول العالم ومزاولة رياضته المفضلة وأن يجد وقتا للصيد، ووقتا للراحة بدون هموم أو مشكلات، أما الثاني فيخاف من أن يكون مصيره التقوقع داخل المنزل كما مهملا من الجميع وفي أفضل الأحيان الجلوس علي مقهي المعاشات إن كان له مكان أيضا، فمقاهي المعاشات اختفت وحل بدلا منها مقاهي الشباب التي تذيع الفيديو الكليب المثير وتنقل المباريات المشفرة ولا تكتفي فقط بثمن مشروب الشاي وإنما تفرض أيضا مبلغا معينا كحد أدني للجلوس فيها. والخوف من التقاعد عندنا لا يتعلق بالموظف والرجل العادي فقط وإنما يمتد لكل المستويات القيادية والوظيفية فلم نسمع مثلا أن مسئولا قرر من تلقاء نفسه أن يتقاعد لأنه يريد أن يرتاح أو لأنه يشعر بأنه ليس عنده جديد يستطيع أن يقدمه، بل علي العكس فإننا نسمع عن وزراء أجروا جراحات خطيرة وظروفهم الصحية لا تسمح لهم بالعمل وقتا طويلا، ومع ذلك فقد ظلوا في مقاعدهم وازدادوا تمسكا بها وانجذابا إليها. وبعيدا عن المسئولين الحكوميين الذين تربوا علي "الميري" وعرفوا أسراره وحلاوته، فإنه حتي السادة رؤساء أحزاب المعارضة لا يؤمنون كذلك بالتغيير ولا يدركون أن الزمن يتغير بسرعة وأن هذا الزمان الجديد ليس زمانهم وأن عليهم أن يحتفظوا بذكريات الزمن الجميل والماضي المشرف لهم ويتوقفوا عن محاربة طواحين الهواء، فقد كان مشهد خالد محيي الدين زعيم حزب التجمع وهو يكافح ويناضل في انتخابات كفر شكر للفوز بمقعد نيابي مشيرا للآلام والأحزان ويدعو للشفقة، فالرجل الذي نكن له كل تقدير واحترام يحتاج إلي الراحة والعناية ولا يمكنه لا القيام بأعباء "النيابة" ولا استقبال الناخبين ولا السعي لتلبية طلباتهم ولا حتي الذهاب إلي مجلس الشعب في كل جلسة لعرض مطالبهم..! والشيء نفسه تكرر مع السيدة فايدة كامل التي كانت ملء السمع والأبصار في كل دورة انتخابية، والتي هي علامة بارزة من علامات مجلس الشعب مثلما كانت المرحومة الحاجة نوال عامر في السيدة زينب، ولكنها هذه المرة لم تدرك أن الزمان لا يعود إلي الوراء وأن علامات السن وتقدم العمر لا تمحوها الذكريات الجميلة ولا السمعة الطيبة وأن الناس لديها ما أمامها فقط أي أن لها الظاهر الذي تحكم عليه.. ولهذا خسرت كما خسر خالد محي الدين لأن الناس تريد لهما الراحة وتدرك أنهما أديا ما عليهما وآن لهما أن يستريحا..! وهو شيء طيب في الحقيقة أن يكون لدينا الأمل والدافع في أن نعمل حتي النفس الأخير، ولكن العمل والعطاء والابداع شيء يختلف تماما عن الإدارة والقيادة والالتزام، فالمبدع هو حر طليق يستطيع أن يبدع إلي آخر العمر، وكاتبنا الكبير نجيب محفوظ أطال الله في عمره الذي بلغ الرابعة والتسعين من عمره هو خير مثال لذلك، أما الإدارة والقيادة فتحتاج إلي تجديد وتغيير وتطوير مستمر وراحة لالتقاط الأنفاس والاكتفاء بدور الاستشارة وتقديم الخبرة والتجربة. ونحن نأمل في هذا أن يكون هناك التزام بالاحالة للمعاش في سن الستين عاما للمناصب القيادية وعدم اللجوء إلي القرارات الاستثنائية في التجديد للبعض عاما بعد عام، فهذه الاستثناءات تصبح هي القاعدة التي تحطم القانون وتفتح الباب أمام تكوين امبراطوريات وعزب خاصة تعلم أصحابها الفساد واستغلال النفوذ ولا تدفعهم لشيء آخر عكس ذلك، وتمحو في طريقها قيادات وأشخاص ستضيع عليهم الفرصة قبل أن تأتي لاثبات واظهار قدراتهم ومهاراتهم. وعلي أية حال فإن كلنا نقول هذا الكلام ونردده وعندما تصلنا الفرصة نتنكر لكل ما طالبنا به ونتشبث بالكرسي إلي آخر العمر إن استطعنا، ويحدث هذا وسيظل يحدث لأننا نتاج ثقافة و"سيستم" خاطيء علمنا أن البقاء ليس للأصلح ولكن البقاء "للبهلوانات" الذي يجيدون التسلق والسير فوق الحبال..