أثارت موجة الاحتجاجات التي تجري في فرنسا هذه الأيام دهشة المواطنين في مصر من الذين يتابعون الأخبار الدولية ليس بسبب الاضرابات والاحتجاجات التي اشتهرت بها فرنسا، لكن بسبب موضوع الاحتجاجات هذه المرة، فالمواطن في مصر لم يتفهم أبدا لماذا يرفض الفرنسيون رفع سن التقاعد، بينما منتهي أمل المصريين ألا يخرجوا أبدا الي المعاش؟ يوم الخروج الي المعاش في مصر يوم حزين، يصبح أكثر صعوبة اذا كان الموظف أو العامل لا يمكنه ممارسة العمل لحسابه في مشروعه الخاص أو لدي آخرين تسمح منشآتهم بتشغيل المحالين الي التقاعد سواء كانوا مهنيين أو حرفيين أو اداريين. ربما يتساءل البعض: لماذا لا يرتاح العامل بعد عناء سنوات طويلة من العمل ويقضي بقية عمره في الفرجة علي العالم وزيارة الأماكن السياحية والاستمتاع بوقته كيفما يشاء بدلا من التوتر الدائم الناجم عن محاولة اللحاق بمواعيد الحضور والانصراف، وشبح الاستغناء المفاجئ عنه لأسباب لا تتعلق به بل بظروف المنشأة التي يعمل بها. الاجابة معروفة لدينا ولديكم، بل ان مجتمع التقاعد في الواقع في الدول المتقدمة كفرنسا يمثل طموحا نتطلع الي الوصول اليه، كثيرا ما تقابل أفواجا سياحية من المتقاعدين تأتي لبلادنا من مختلف دول العالم، نراهم يتفسحون في الأماكن السياحية ويقيمون بالفنادق ذات الخمس نجوم، كانوا قبل تقاعدهم عمالا أو موظفين عاديين استطاعوا توفير ثمن الرحلة وغيرها من معاش التقاعد. أعتقد أن هذا وحده سبب كاف للاحتجاج علي رفع سن التقاعد لأنه سيؤخر حصول المواطنين علي مميزات التقاعد بينما التقاعد لدينا يمثل مشكلة تثير الحزن في بيوتنا، فالتقاعد هناك له مميزات يحرص الناس عليها نظرا لاستقرار قيم المجتمع في العمل والأجر والمساواة في الحقوق والواجبات، والأهم من ذلك احترام متأصل للمتقاعدين واعتبارهم أصحاب أولوية في الحصول علي الخدمات. بسبب مميزات التقاعد بعد عمل طويل، حقيقي وشاق، تواجه فرنسا موجة عاصفة من الاحتجاجات علي تعديل في نظام التقاعد الي المعاش، تعتبره الحكومة اصلاحا للنظام، بينما تعتبره اتحادات العمال انتقاصا من حقوق مكتسبة للقوي العاملة الفرنسية. الحكومة اليمينية المنتخبة في فرنسا تصر علي تمرير ما تسميه اصلاحا للنظام بقوة الأغلبية التي حصلت عليها في آخر انتخابات تشريعية، وأحزاب اليسار واتحادات العمال تعارض المشروع، هكذا سارت الأمور. أفادت التقارير الصحفية أن نحو ثلاثة ملايين شخص شاركوا في الاحتجاجات علي مشروع القانون في مراحل عرضه واقراره في غرفتي البرلمان الفرنسي، وتقول الاتحادات المنظمة للاحتجاجات أنها ستستمر في تصعيد الموقف لعدة أيام أخري وربما لعدة أسابيع. من ناحية أخري أعلن الرئيس الفرنسي ساركوزي أنه يتفهم غضب المحتجين، لكنه لن يتراجع عن إصلاح نظام التقاعد الذي درسته وعرضته حكومته لأن دور رئيس الدولة هو تنفيذ مسئولياته.. يرجح محللون أن تمثل تلك الإصلاحات نقطة فاصلة في رئاسة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. فقد أظهر استطلاع لصحيفة لومانيتيه اليسارية أن 70% من الفرنسيين يعارضون رفع سن التقاعد الذي تقول حكومة اليمين إنه يعكس فقط ارتفاع معدل عمر الفرنسيين، وإنه ضروري للحفاظ علي نظام المعاشات، وتقليص الدين العام. ينص مشروع إصلاح نظام التقاعد علي تأخير سن التقاعد من ستين عاما حاليا إلي 62 عاما بحلول العام 2018، وهي ما يشكل تراجعا عن مكسب اجتماعي يعود لفترة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران. تعلل الحكومة المشروع بأنه خطة إصلاحية لتحقيق توازن في صناديق التقاعد بحلول 2018 وخفض العجز العام والحفاظ علي مكانة فرنسا المتقدمة في التصنيفات الائتمانية. وتشير إلي أن العجز في نظام المعاشات في فرنسا سيصل إلي عشرين مليار يورو في 2010، وإلي 45 مليار يورو في 2020، وربما إلي سبعين مليار يورو بحلول العام2030 . وأن كل التقارير خلصت إلي أن النظام متجه نحو الهاوية اذا لم تعتمد الاصلاحات، وكل الدول الأوروبية عالجت تلك المشكلة من خلال رفع سن التقاعد إلي 65 سنة أو 67 سنة كما هو الحال في ألمانيا وإسبانيا. المهم هنا أن النظام الديمقراطي الفرنسي عزز قبضة الحكومة المنتخبة وأعطاها قوة لازمة لتنفيذ برامج الاصلاح، وأكد أن احتجاجات الشوارع ليست مؤهلة للحكم، في نفس الوقت لم تمسك الحكومة المنتخبة العصا من منتصفها خوفا من ضياع أصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة.