لعل التطورات الجارية اليوم علي خلفية انسحاب اسرائيل من غزة تكاد تجزم بأن الجدول الزمني للانسحاب الذي بدأ منذ الخامس عشر من الشهر الحالي ربما يمتد حتي نهاية العام الجاري إذا اقتضي الأمر، فرحيل المدنيين سيعقبه رحيل القوات الاسرائيلية التي سيتطلب انسحابها مزيدا من الوقت، أي ان الجانب العسكري للانسحاب لن يقل تعقيدا وخطورة عن انسحاب المستوطنين. التفوق الديموجرافي جاء الانسحاب من غزة لرفع الحرج عن حكومة شارون أمام المجتمع الدولي واثبات انها تتبني الشرعية الدولية منهجا والسلام مبدءاً، غير أن خطوة الانسحاب جاءت في اطار استراتيجية اسرائيلية لحماية التفوق الديموجرافي اليهودي من خلال نقل التسعة آلاف مستوطن من الضفة الغربية التي تضم مع القدس نحو 300 ألف مستوطن الآن، وبذلك تكون اسرائيل قد قايضت غزة بترسيخ احتلالها للضفة والقدس التي لا ولن تنسحب منهما. أي أنها أرادت بانسحابها من غزة إلهاء المجتمع الدولي كلية حتي لا يطالبها أحد بتنفيذ أي خريطة او اتفاق وبالتالي أسقطت بند التفاوض مع الفلسطينيين من حساباتها فغدا انسحابها يتم بناء علي ما تراه محقاً لمصالحها وليس بناء علي ما تفرضه الشرعية الدولية. لعبة الانسحاب...! نجح شارون بذكاء في ابلاغ العالم الرسالة التي أراد ترجمتها علي أرض الواقع بالنسبة لاجلاء المستوطنين واقتلاعهم من أرض غزة واظهار صعوبة التخلي عنها والدموع التي ذرفها المستوطنون واصرار شارون رغم الألم علي تنفيذ خطة فك الارتباط ليتحول إلي بطل للسلام ويتحول المستوطنون إلي ضحايا علي الطريق. استغل شارون الحدث اعلاميا علي أوسع نطاق لتمرير هذه الصور والترويج لها علي أساس ان ما يحدث ليس إلا مأساة مروعة لا يمكن تكرارها في مكان آخر، وكأنه أراد بمظاهرة ترحيل المستوطنين التأثير اللاحق علي كل من شاهد صورها علي شاشات التلفزة، انها أشبه بلعبة نجح شارون في إدارتها بحرفية. الكرة في الملعب الفلسطيني الانسحاب من غزة منح اسرائيل ما تريد، فلقد رمت بالكرة في الملعب الفلسطيني بحيث باتت تتطلع إلي أن يكون المقابل لغزة وأد المقاومة واستدراج الفلسطينيين إلي صراع داخلي، وفي ظل ذلك يسقط حق العودة ويتعذر إقامة الدولة بعد ان باتت غزة ورقة مساومة للقضاء علي المقاومة بعد ان قدم شارون للمجتمع الدولي ما يمكن اعتباره بداية خطة للسلام حتي وان لم تكن كذلك في واقع الأمر. غير انه لا يمكن للسلطة الفلسطينية ان تستسلم لاسرائيل من جانب واحد، كما لا يمكن ان تحصر نفسها في الخطوات الاسرائيلية وإلا وقعت في الفخ الذي نصبه شارون وأراد بواسطته ضرب المشروع الفلسطيني. خلط الأوراق لقد رأينا الشهر الماضي كيف أن هناك من خلط الأوراق مثل وزير داخلية فلسطين الذي وقع في المحظور وكاد أن يحدث صداما فلسطينيا داخليا عندما أمر باطلاق النار علي عناصر من حماس، ولولا حكمة المقاومة لما أمكن تجاوز الأزمة ولما أمكن درء الفتنة في حينه، فلقد تعاملت المقاومة بشكل واقعي وموضوعي. ولاشك ان المرحلة الحالية خطرة للغاية فيما لو لم يتبين الفلسطينيون ما يحاك لهم ويسارعون بتوحيد مواقفهم ومواصلة الكفاح لانتزاع كامل حقوقهم، لاسيما ان انسحاب اسرائيل ليس كالماً بمفهوم القانون الدولي الذي يعني ان تكون هناك سيادة فلسطينية كاملة علي الأراضي العربية وهو ما لم يتحقق بعد. والحادث اليوم فرصة عليهم استغلالها يدفعهم إلي ذلك عاملان .. الأول ان المشروع الصهيوني يمر بمأزق حقيقي يجعله في حالة أفول وتراجع والثاني تعويض فاتورة الضحايا الفلسطينيين ممن سقطوا شهداء خلال أكثر من ثلاثة عقود من الاحتلال. تطوير المقاومة لاشك ان فتح جبهة غزة وهي جبهة صغيرة انما يعني ان المعركة الرئيسية ستكون الضفة والقدس حيث الاستيطان في البلدة القديمة وما حولها بالاضافة إلي جدار الفصل العنصري لتحقيق الهدف الاستراتيجي الاسرائيلي. وبالتالي فإن ما يتعين عمله هو تطوير المقاومة لقطع الطريق علي مخططات اسرائيل في الأراضي الفلسطينية خاصة أن غزة تؤول إلي الفلسطينيين بسيادة منقوصة، ويكفي انهم لا يعرفون حتي الآن مصير المطار والميناء والمعابر والممر الآمن الذي يشكل وصلاً مع الضفة بالاضافة الي بقاء اسرائيل في معبر رفح، ومن الطبيعي ان يصبح كل ذلك مبررا لبقاء المقاومة والحفاظ عليها، بمعني ان المقاومة يمكن ألا يكون لها وجود في حالة واحدة فقط وهي زوال الاحتلال بالكامل من كل الأراضي الفلسطينية بحيث يمتد الانسحاب الي الضفة وتؤول السيادة بالكامل إلي الفلسطينيين.