قضاة «مستقلون»وقضاء «غير مستقل»!! أكدت الأحداث التي شهدتها ساحة القضاء في الأسبوعين الماضيين صحة المقولة التي أعلنها أحد القضاة الأجلاء منذ سنوات في أن «في مصر قضاة مستقلون ولكن القضاء غير مستقل». وقد بدأت الأحداث بتنحي الدائرة التي كان يرأسها القاضي محمد شكري والتي كانت تنظر القضية المعروفة بقضية التمويل الأجنبي والمتهم فيها عدد من الأمريكيين والأجانب والمصريين، بعد أن تعرض قضاة هذه الدائرة لضغوط لإصدار قرار بإلغاء قرار منعهم من السفر، وبعد تنحي الدائرة أصدر رئيس محكمة استئناف القاهرة القاضي عبدالمعز إبراهيم قرارا بتشكيل دائرة خاصة من ثلاثة من القضاة العاملين بالمكتب الفني لرئيس المحكمة ألغت قرار منع السفر، وتقدم القاضي محمد شكري وعضوي دائرته بمذكرة لرئيس مجلس القضاء الأعلي القاضي حسام الغرياني بأسباب التنحي فصلوا فيها الضغوط التي مورست عليهم من جانب القاضي عبدالمعز إبراهيم ومن جانب رئيس محكمة. وبادر عدد كبير من قضاة محكمة استئناف القاهرة بالدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة يوم الثلاثاء 20 مارس لإلغاء التفويض الممنوح لرئيس المحكمة «عبدالمعز إبراهيم» في الأمور الإدارية والفنية والمالية، وحضر القاضي «عبدالمعز إبراهيم» بصحبة رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلي القاضي «حسام الغرياني» وأعلن تنازله عن هذه الاختصاصات التي كانت الجمعية العمومية قد فوضته فيها وتولي القاضي «حسين عبدالحميد» مسئولية الشئون الإدارية والفنية والمالية، ولكن سرعان ما أنكر القاضي «عبدالمعز إبراهيم» تنازله الذي أعلنه علي رءوس الأشهاد وقطع سفرا للخارج في مهمة قضائية وعاد مسرعا للبلاد واصفا نفسه ب «قاضي مصر الأول» ومصرا علي ممارسة التفويض الذي كان ممنوحا له، وداعيا لجمعية عمومية يوم الثلاثاء 27 مارس. وقام رئيس محكمة استئناف القاهرة بالتعاون مع رئيس نادي القضاة وبدعم من السلطة التنفيذية بحشد أنصارها لمواجهة تيار استقلال القضاء الذي دعا لسحب التفويض الممنوح له، ونجح القاضي «عبدالمعز إبراهيم» في هذا الحشد، حيث صوت 154 قاضيا من قضاة محكمة استئناف القاهرة (861 قاضيا) لصالح الإبقاء علي الصلاحيات الممنوحة له كاملة، مقابل 101 صوت صوتوا لصالح سحب هذه الصلاحيات. وارتكب القاضي «عبدالمعز إبراهيم» خطأ آخر بنشره إعلانا مدفوعا في صحيفة الأهرام يتضمن شكرا لأنصاره وهجوما علي القضاة المدافعين عن استقلال القضاء جاء فيه «المستشار عبدالمعز إبراهيم يتقدم بخالص الشكر لجميع قضاة المحكمة لتمسكهم به وثقتهم فيه داعيا المولي - عز وجل - أن يبعد عنهم الحاقدين والله ولي التوفيق»، ووصف القاضي «محمد شكري» ما نشر في الأهرام بأنه «سقطة قضائية جديدة تضاف إلي سجل عبدالمعز الحافل والملئ بالتجاوزات القضائية»، وأضاف «أن التدخل في عمل القضاء جريمة، وهي التي ارتكبها المستشار عبدالمعز». وهذه الواقعة الكاشفة عن عدم استقلال السلطة القضائية في مصر رغم وجود قضاة مستقلين ليست الأولي ولن تكون الأخيرة. فمعارك استقلال القضاء متواصلة منذ نشوء نادي القضاة بمبادرة من القضاة أنفسهم في اجتماع بمحكمة استئناف القاهرة في 10 فبراير 1939، مرورا بإصدار قانون استقلال القضاء في 10 يوليو 1943، والتصدي لتشكيل محكمة خاصة برئاسة قاضي قارب سن الإحالة للمعاش لمحاكمة المتهمين بالتحريض علي حريق القاهرة في 26 يناير 1952 ومحاولة رفع سن المعاش لإتاحة الفرصة أمامه لإصدار حكم في هذه القضية، والمواجهة بين نادي القضاة ووزير العدل «ممثل السلطة التنفيذية» التي استصدر القانونين رقمي 64 و76 لعام 1963 بحل مجلسي إدارة نادي القضاة بالقاهرة ونادي قضاة الإسكندرية وتصدي القضاة من خلال ناديهم لمحاولة ضم القضاة لعضوية الاتحاد الاشتراكي «التنظيم السياسي الوحيد أو حزب الحكم» بالمخالفة للقانون والقواعد القانونية المستقرة التي تمنع القضاة من الاشتغال بالعمل السياسي الحزبي، وإصدار نادي القضاة عقب هزيمة 1967 بيانا حدد فيه أسباب الهزيمة وأكد فيه أن إطلاق الحريات والإصلاح السياسي هو السبيل لمواجهة «النكسة» ولجوء الحكم لفصل عدد من القضاة فيما عرف بمذبحة القضاء وحل مجلس إدارة نادي القضاة في أغسطس 1969، والوقوف في وجه محاولات السلطة التنفيذية للاستيلاء علي نادي القضاة منذ عام 2002 وحتي الآن وهو ما تحقق لها في الانتخابات قبل الأخيرة، وملاحقة الحكم لقضاة تيار الاستقلال بإصدار مجلس القضاء الأعلي قرارا بالتنبيه ضد القاضيين حسام الغرياني وأحمد مكي لدورهما في الجمعية العمومية لنادي القضاة (17 أكتوبر 2003) التي رفضت القرار بقانون برفع سن التقاعد للقضاة، ولجوء رئيس محكمة النقض رئيس المجلس الأعلي للقضاء للتعقيب علي قرار الدائرة التي يرأسها القاضي «حسام الغرياني» ومن بين أعضائها القاضي هشام البسطويسي وكلاهما من قادة تيار الاستقلال في القضاء، والتي ألغت انتخابات مجلس الشعب في دائرة الزيتون لما شابها من تزوير «دائرة زكريا عزمي رئيس ديوان مبارك»، ومطالبة الدائرة بإعادة النظر في قرارها، ورد الدائرة التي اجتمعت في غرفة مشورة يوم 9 فبراير 2004 وأصدرت قرارا بعدم قبول تعقيب رئيس محكمة النقض علي اعتبار أن القانون لم يرد فيه ما يخول رئيس محكمة النقض التدخل في تحقيق الدائرة في الطعون الانتخابية أو الرقابة علي أعمالها، وإحالة نواب رئيس محكمة النقض «محمود مكي ومحمود الخضيري وهشام البسطويسي» للتحقيق أمام النائب العام بتهمة الإساءة للقضاة الذين أشرفوا علي انتخابات مجلس الشعب 2005، حيث أدلي الثلاثة بتصريحات للإعلام حول وقوع تزوير في هذه الانتخابات، ثم إحالة القاضيين يحيي جلال فضل وعاصم عبدالجبار سعد للتحقيق بنفس التهمة.. وصولا إلي إعداد نادي القضاة لأكثر من مشروع قانون لتحقيق استقلال القضاء منذ عام 1991 وحتي اليوم، دون أي استجابة من السلطتين التنفيذية والتشريعية. وتضمن مشروع القانون الذي قدمه نادي القضاة عام 2005 تعديل 35 مادة من القانون القائم وإضافة 7 مواد جديدة وإلغاء 5 مواد وإضافة 4 مواد انتقالية، وتخصيص موازنة مستقلة تدرج كرقم في الموازنة العامة للدولة ويكون مجلس القضاء الأعلي هو المتحكم في الموازنة، ورفع يد وزارة العدل والسلطة التنفيذية عن القضاء «فممثل السلطة التنفيذية وهو وزير العدل خوله القانون اختصاصات سلبت من المجلس الأعلي للقضاء وصلت إلي 58 اختصاصا أصيلا، ونقل تبعية التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلي، وأن يتولي المجلس التنسيق القضائي ويكون زمام القاضي في يد المجلس، وتحدد قاعدة عامة للندب وتتم بموافقة المجلس «باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل للنظر في كل ما يتعلق بشئون القضاة وأعضاء النيابة العامة، ولا يكون الندب بواسطة غيره وسيلة للترغيب أو للترهيب، وخضوعا لأهواء السلطة التنفيذية»، وأن يكون اختيار معظم أعضاء مجلس القضاء الأعلي عن طريق الانتخاب وليس التعيين. وإلي أن ينجح القضاة والقوي الديمقراطية في إصدار قانون استقلال السلطة القضائية فسيظل استقلال القضاء منقوصا والعدالة غائبة مهما زاد عدد القضاة المستقلين.