حضور رغم الغياب التقيت بمحمد ابراهيم نقد للمرة الأولي في ابريل عام 1985 في الخرطوم بعد الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بحكم جعفر نميري الديكتاتوري العسكري الذي نصب نفسه في نهاية أيام حكمه إماما للمسلمين، أو بمعني أصح نصبه الإخوان المسلمون بقيادة د. حسن الترابي في سياق سعيه وجماعته للهيمنة علي حكم البلاد. كان «نقد» عائدا لتوه من اختفاء قسري امتد لنحو أربعة عشر عاما منذ إعدام قادة الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد وزملائهم في أعقاب فشل انقلاب هاشم العطا. وخلال هذه السنوات استطاع «نقد» أن يعيد سرا بناء الحزب الشيوعي مرة أخري، بعد أن تقطعت أوصاله وتشتت قواعده بملاحقة إجرامية لأجهزة أمن « نميري»، وقد أصبح هو سكرتيره العام. كان واضحا من الأعداد الكبيرة لكوادر الحزب المشتركة في الاعتصامات والإضرابات التي قادت إلي العصيان المدني العام أن الحزب أعاد بناء صفوفه برغم التصفيات الدموية لقيادته، وأن الفضل في ذلك يعود إلي قيادة غير عادية، تمتلك رؤية ووعيا وثقافة وقدرة علي الاقناع واكتساب محبة الآخرين وثقتهم، تمثلت في شخصية «محمد إبراهيم نقد». سألته آنذاك كيف تمكنت من الاختفاء 14 سنة رد بفخر واعتزاز: إنه الشعب السوداني الذي كنت انتقل من بيوت أفراده بحرية تامة. فقد كانوا هم من يقومون بحمايتي. ومحمد إبراهيم نقد (1930-2012) هو من الجيل المؤسس للحزب الشيوعي السوداني عام 1946، وهو الجيل الذي قاد معركة التحرر من الاستعمار البريطاني، ولأن الحركة السودانية للتحرر الوطني «حستو» خرجت من عباءة «الحركة المصرية للتحرر الوطني» حدتو، فقد رفع هذا الجيل شعارالكفاح الوطني المصري والسوداني المشترك ضد الاستعمار، بدلا من وحدة مصر والسودان وبسبب بعض الأخطاء التي وقع فيها قادة ثورة يوليو عام 1952 فيما يتعلق «بالمسألة السودانية» انضم الحزب الشيوعي السوداني إلي القوي المطالبة باستقلال السودان عن مصر عام 1956. بعد نحو ثلاثة أشهر من الانتفاضة الشعبية عام 1985، تقدم الحزب الشيوعي بمذكرة للمجلس العسكري الانتقالي بقيادة سوار الذهب يطالب فيها بأن يتضمن الدستور الانتقالي للسودان كل ما يضمن احترام الأديان، ويدعو إلي الأخذ من أصول الشريعة الإسلامية بما يلائم العصر «ويحترم كل الأديان والمعتقدات، ويعارض كل دعوة فوضوية للمساس بمعتقدات وبمقدسات الشعب» ويعترض بنفس القدر علي «المتاجرة بالدين في السياسة وشئون الحكم». استطاع الحزب الشيوعي السوداني بقيادة «نقد» أن يصبح من أكبر الأحزاب الشيوعية في القارة الإفريقية، بعد أن قدم اجتهادا خلاقا فيما يخص علاقة الماركسية بالدين، وهي العلاقة التي ترجمها الزعيم المؤسس «عبد الخالق محجوب» في تقريره أمام المؤتمر الرابع للحزب بقوله «أصبح لزاما علي حزبنا أن ينمي خطه الدعائي حول قضية الدين الإسلامي وعلاقته بحركة التقدم الاجتماعي. أهمية هذا الخط لا تقتصر علي الردود علي ما يثار، بل تتعدي ذلك لجعل الدين الإسلامي عاملا يخدم المصالح الأساسية لجماهير الشعب، لا أداة في يد المستغلين والقوي الرجعية» لهذه الأسباب لم يكن غريبا أن تعرف الحياة السياسية السودانية ظاهرة «الرفيق الشيخ» التي أفرزها الاجتهاد الخلاق للشيوعيين السودانيين. يرحل «محمد إبراهيم نقد» ويختفي قسرا مرة أخري وأخيرة في وقت تشتعل فيه المعركة التي خاضتها علي امتداد نحو أكثر من خمسين عاما من أجل دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وحكم الإنقاذ يمضي في خطابه لتمرير دستور إسلامي يطبق الشريعة ويقهر الشعب السوداني بزعم تطبيق الحدود وإلزام النساء بالزي الإسلامي، في الوقت الذي تشتعل الحروب الأهلية في جنوب وشرق وغرب السودان، وهي حروب تتهدده بالتقسيم مرة ثانية وثالثة، ورغم الغياب فإن معركة حياة محمد إبراهيم نقد سوف تستمر في رسوخ مبادئ وأهداف الحزب الشيوعي السوداني التي يتمسك بالسير علي هديها الجيل التالي من الشيوعيين السودانيين، ليبقي «نقد» حاضرا رغم الغياب.