مناضلون يساريون عبد الله الطوخي «1» عندما كنت طفلا ، أرادت أمي أن تصنع مني رجلا، فقالت لي يوم حصاد القمح روح يا عبد الله أحرس الغلة، وأمسك عصاية كبيرة علشان تهش بيها العصافير. ووضعت ديل الجلابية في سناني وجريت للجرن. كانت العصافير بالمئات تأكل في مرح، تركتها وجلست أتأملها. ولما حضرت أمي امسكت بالعصا وضربتني صارخة «أنا نفسي تبقي رجل يا ولد» عبد الله الطوخي في حواره معي التقيته لأول مرة في سجن مصر. في أول ليلة جلسنا كل منا يحكي ذكرياته عن المنصورة. وبعدها اصبحنا أكثر من اصدقاء. معه تذكرت أيام الطفولة. المنصورة الابتدائية والاستاذ البادي الطوخي (عم عبد الله) وكان سكرتير المدرسة، وتذكرت كيف كنا نمشي جماعة علي كورنيش النيل حتي حديقة شجرة الدر وعلي اطرافها المبني الارستقراطي للنادي الملكي حيث كبراء المدينة ثم نهاية شريط الاسفلت، وعدة خطوات لنجد انفسنا في ظلال شجرة الجميز العجوز التي حكي لي عنها عبد الله عشرات الحكايات. نتسلق الجميزة كالقرود نأكل الجميز حتي يضبطنا اطفال ميت بدر خميس ويطاردوننا. نغضب منهم ونترصدهم أيام الاعياد حيث تكون متعة العيد في التوجه إلي «سوق العيد» في المنصورة ينفق كل منهم عيديته في شراء خرزانة اطول منه ورغيف سوقي ملئ بالطعمية ثم قطعة من الحلاوة الطحينية، لكننا نطاردهم كما يطاردوننا نخطف الطواقي وهم لا يتجاسرون علي استردادها. الأسرة مستورة، لكنها تبدو كالاغنياء في بلدة شديدة الفقر. مساحة قليلة من الافدنة تمكن الاسرة من تخريج عدد من الافندية. وعبد الله يقطع الطريق سيرا علي الاقدام من اقصي المدينة إلي طرفها الآخر حيث المنصورة الابتدائية الأميرية. ثم إلي المنصورة الثانوية المجاورة بشجرة الدر ويحصل علي التوجيهية.. ثم تتسع ابتسامة عبد الله لتضئ الزنزانة وهو يحكي «انطلقت إلي الحرية، دخلت كلية الحقوق زملائي في الكلية دخلوها لأنها كلية وزراء المستقبل، أما أنا فدخلتها لأنها كلية الحرية. فقد اقنعت نفسي أنني لست في عجلة من أمري، ولا داعي لتضييع الوقت في مدرجات المحاضرات أو في المذاكرة، وقررت أن اكرس كل وقتي للتعرف علي معشوقتي.. القاهرة وبحثا عن حريتي في التسكع حيث أشاء. ويمضي عبد الله في حواره معي قائلا «ولكن كيف لك أن تستمتع بالحرية في وطن غير حر، أتيت القاهرة في العام الدراسي 45-1946 وما هي إلا أشهر حتي تتفجر هذه المعشوقة بثورة طاغية ضد الاستعمار والرجعية والقصر الملكي، شاركت في المظاهرات وفي معركة كوبري عباس الشهيرة كنت هناك الكوبري فتح والهجانة بالكرابيج والعساكر بالشوم والرصاص يدوي . البعض القي بنفسه في النيل والبعض مزقته الكرابيج أو اصابه الرصاص أنا اتسحبت من بين السيقان المتصارعة مستفيدا من جسدي النحيل وخرجت مسرعا ومصابا بجراح عديدة ومع المظاهرات كانت المناقشات الساخنة، لكنني كنتي مصمما علي التباعد عن السياسة، اريد حريتي الشخصية شوية هتافات في مظاهرة آه اكثر من كده لأ. لكن بلدياتي أحمد الرفاعي وكان قد سبقني إلي كلية الحقوق ظل يطاردني بمناقشات لا تنتهي هو وطالب نوبي وهو زكي مراد قالا انهما شيوعيان ووجها لي دعوة إلي مائدة الشيوعية. قلت لهما بصراحة أنا متعاطف مع الفقراء ولكن تنظيم وسياسة لأ. لكن الماكر الحبيب احمد الرفاعي وقد ادرك اتجاهي إلي القصة والكتابة اطلق علي قذيفة لا تقاوم فأعطاني رواية «الأم» لمكسيم جورجي سحر في عالم عشت في ملكوته. صرت أحلم حتي وأنا اتمشي في شوارع القاهرة بالفتي الثوري «بافل» وأمه وبالسجن، وبرومانسية خالصة تمنيت أن أصبح مثل بافل، وأن اسجن مثله وأعذب مثله، عطر «بافل» غمرني وأوشكت أن اتقمص شخصيته. وباختصار اصطادني احمد الرفاعي ودخلت راضيا ومتحمسا إلي قفص التنظيم الشيوعي. وشارك بحماس محسوب في العمل الجماهيري واسهم في المظاهرات الصاخبة التي اعقبت فترة سكون في زمن الأحكام العرفية (48-1950) ثم كان الحدث المهم الذي مثل نقطة تحول في حياته. زواجه من فتحية العسال. وعاشا معا قصة حب جميلة. شاركته في كل شيء وتغنيا معا بشعر لكمال عبد الحليم: وأقمنا في تحد عشنا.. لهب انت ونيران أنا فتنة أنت ولا ثورة.. جمعنا ما عشقنا بعضنا إلي هنا والأمن يتعامل معه كفتي متحمس ولكن غير ضار. حتي كانت واقعة تشبه الأفلام الهندية. وبداية القصة كانت فترة السجن المريرة التي قضاها شهدي عطية في سجن طرة. وهناك جعل شهدي من السجن مدرسة حقيقية وبدأ في تجنيد عشرات من السجناء ليصبحوا علي يديه شيوعيين شربوا علي يديه من نهر المعرفة النظرية الدافقة والاخلاص الثوري المتفاني ومن هؤلاء كان فتحي أبو طالب. وهو مسجون في قضية شهيرة هزت الرأي العام لفترة طويلة حيث شكل مجموعة سرقت البنك الأهلي. وظل فتحي أبو طالب يحاول الهرب المرة إثر الأخري وينجح في الهروب عبر أساليب غاية في الغرابة تحولت فيما بعد إلي أفلام سينمائية عدة. وفتحي قوي الملاحظة فقد لاحظ أن الزيارات التي تأتي لشهدي مصطحبة كالعادة بعض الطعام يكون ملفوفا دوما في اكياس ورقية مطبوع عليها «عبد الباقي عمر قمصانجي - شارع خيرت- السيدة زينب». حفظ الاسم والعنوان بعد أن تأكد أن الحزب هو الذي يرسل الطعام لشهدي. وهرب فتحي من السجن. تمشي في شوارع القاهرة، وفي شارع خيرت وجد المحل. دخل بهدوء وطلب اتصالا بالتنظيم راوغه عبد الباقي لكن فتحي نجح في اقناعه. وأتي رفيق ليتسلم الهارب الجديد. وتقرر أن يختبئ في منزل المحامي عبد الله الطوخي حتي يمكنه القول أن السجين الهارب أتي إليه طالبا تسلميه للبوليس. وفي بيت عبد الله وفتحية تمتع فتحي بقدر من الحرية سحب كرسيا وجلس في البلكونة ليطالع المشاهد الصاخبة في حي السيدة زينب . لكن أحداث الفيلم الهندي تكتمل. الجارالمواجه لبيت عبد الله هو شقيق احد السجناء في طرة وكان يري فتحي ابو طالب اثناء الزيارة، فزار اخاه وابلغه. الأخ السجين ابلغ المأمور قائلا أن الشيوعيين قاموا بتهريب فتحي كي يغتال الرئيس محمد نجيب (كنا في عام 1953 وكانت حدتو قد بدأت صراعها ضد حكومة الجيش) وفجأة دق الباب واقتحمت الشقة مجموعة كبيرة من الضباط والجنود. الضابط سأل عبد الله فتحي ابو طالب عندك فأجاب نعم. فلا جدوي من الانكار. دخلوا. فتشوا ولم يجدوا فتحي. قال لي فتحي ابو طالب في حواره معي «في حالات كهذه تعلمت فور دخولي أي بيت أن اكتشف طريقا للهروب. كنت بالجلابية وحافي القدمين سمعت خبط الباب اندفعت إلي البلكونة وتسلقت المواسير من الدور الثالث إلي الشارع واندفعت نحو المكوجي المجاور قائلا في هلع مفتعل وابور الجاز طق في وش البنت اديني الشبشب علشان اجري واطلب الاسعاف. ولبست الشبشب وتمشيت بهدوء». لم يجدوا فتحي ابو طالب لكنهم ادركوا أن عبد الله الطوخي شيوعي خطير. وحفظوها له حتي كانت حملة قبض واسعة طالت أغلب كوادر «حدتو» في منطقة القاهرة فقبضوا عليه وإلي سجن مصر..وهناك التقينا. وإلي لقاء لنكمل معا قصة عبد الله