مناضلون يساريون الدكتور مختار السيد (1) لم يكن في الأمر أي غرابة فقد أصبحت شيوعيا بشكل تلقائي ففي قريتنا جزيرة الضباب مركز دكرنس شبان يتحدثون دوما عن الماركسية وإلي جوارنا عبدالزغبي، و«ميت السودان» «عبدالفتاح موافي» وميت الحلوج «الشيخ عبدالسلام الخشان» وعلي الكوبري الصغير الذي يربطنا بالضفة الأخري للنيل كنا نلتقي في مجموعة كبيرة فتحي مجاهد - محمد طه - السيد يوسف - حمدينو السيد وغيرنا كثيرون نناقش قضايا الصراع الطبقي كأنها خبز يومي. «د. مختار السيد - في حواره معي» الأب بدأ فقيرا جدا وأنجب عشرة أبناء، وكانت معركته أن ينقذ أولاده من الفقر وأن يمنحهم تعليما جيدا، وبرأسمال قليل جدا، وإصرار شديد جدا امتلك 23 فدانا، لكن جيش الأبناء كان يلتهم كل شيء، والفتي مختار مميز بين الجميع بشعره الأحمر وبشرة بيضاء بها بعض من النمش، ومميز أيضا بذكاء حاد وقدرة علي الحفظ، كل صباح يركب القطار الفرنساوي إلي المنصورة حيث المدرسة الابتدائية ليعود في المساء - والقطار الفرنساوي وسيلة مواصلات غريبة تتدحرج ببطء بين القري إلي المنصورة وكنا نحن صغار - نسابقه فنسبقه، وأحيانا كثيرة ينفد رصيده من الفحم فينزل السائق والركاب يقطعون بعض الشجيرات والأعشاب والأوراق لتشتعل وتمضي بالقطار إلي وجهته، أي أن المسافة التي تقطعها السيارة في نصف ساعة إلي المنصورة قد يقطعها القطار في ساعتين أو ثلاث، ومع ذلك يستمتع الفتي بالمذاكرة في القطار المزدحم ويتفوق في الدراسة، ويلتحق بالمنصورة الثانوية، ويحاول الأب أن يوفر للابن بعضا من الوقت فيأتي به إلي شارعنا في المنصورة «شارع القهوجي» وفي غرفة بالدور الأرضي يستقر مختار مع عدد من الطلاب، أبي وكل سكان الشارع استشعروا سخطا علي هؤلاء الأولاد الأغراب والعزاب والذين قد يجرحون حرمة الجيران، وترصدوهم وأنا معهم، كنا نشاهد الفتي ذو الشعر الأحمر يمرق كالسهم عيناه في الأرض، وغرفته في بيت «قمر» لا يفتح شباكها إلا نادرا، وعم المرشدي البقال المواجه للنافذة التي لا تفتح كلف من أبي بأن يراقب الأغراب، لكن الفتي يمضي ويذهب ولا يلتفت وحتي لا يلقي بالتحية لعم المرشدي، ونجح الفتي في الامتحان، فلم يرفع عيناه عن الأرض، ولم يتطلع إلي بلكونة رغم الفتيات المتألقات فيها، ولم ينظر حتي لسهير بنت أصحاب البيت والتي كانت واحدة من جميلات الشارع، ويمضي مختار ليقفز نحو التوجيهية، غريبا كما أتي في يومه الأول، لكن قلبه كان هناك، في المدرسة حتي التقي بكر الشرقاوي وتكونت مجموعة لا يكف عن النقاش هو وبكر وعبدالزغبي وطاهر عبدالحكيم، أنهكوا أنفسهم نقاشا وبحثا وقراءة وانتهي الأمر بالاتفاق علي أن الحل هو الانضمام إلي تنظيم شيوعي. ولكن أين هذا التنظيم لم يستطيعوا العثور عليه، وفجأة تفجرت المنصورة وشارع القهوجي بأنباء القبض علي عشرات الشيوعيين من المنصورة وأحاطت الدهشة بهم، ودهش مختار إذ عرف أن ابن الحاج محمد الذي هو أنا من بين المقبوض عليهم، عبثا حاول مختار وزملاؤه العثور علي خيط ليصل بهم إلي التنظيم دون جدوي فكل شيء انكمش والأحكام العرفية معلنة بسبب حرب فلسطين، لكنه وما أن يخطو إلي أيامه الأولي في كلية الطب حتي يجد الشيوعيين هناك وينغمس معهم رغم كل المحاذير، أبوه مات ثم لحقت به أمه، ويقبض عليه في إحدي المظاهرات ليفرج عنه سريعا، ويستدعي مختار كل الأخوة ليقيموا معه في القاهرة ويعيشوا بإيراد شحيح لما تبقي من أفدنة ورثوها عن الأب، وذات يوم شعر أنه مراقب من الأمن نصحه زملاءه أن يختفي سافر إلي القرية ليدبر مالا فالهرب يحتاج إلي مال، جدته أعطته كل ما تملك مائة جنيه، والمائة جنيه مبلغ كبير بمعايير هذا الزمان، لكنه ما أن عاد إلي القاهرة حتي وجد رفاقا أكثر مسئولية في التنظيم وهم هاربون فعلا، ورفاقا من الطلاب في كلية الطب يتهددهم الفصل لأنهم لم يسددوا الرسوم الجامعية، والفتي الذي وهب حياته للفكرة وللمعتقد وجد لزاما عليه أن يهب المال لرفاقه الأكثر احتياجا وتبخر المال وهكذا مارس مختار أول طقوس التضحية دون ضجيج، واعتاد علي ذلك دوما، أن يعطي دون ضجيج، واعتمد مختار علي علاقاته وأبناء قريته المقيمين بالقاهرة واختفي حتي انتهت الأحكام العرفية وحتي مختار إلي بيته وبعكس ما كان في مدينة المنصورة، كان يطل من البلكونة ليتابع ما يجري في الشارع ولمحت عيناه فتاة في المنزل المقابل.. تعلق بها عن بعد ثم اكتشف أن أحد معارفه من الجيران يتردد علي بيتهم، أبوها كان ناظرا لمدرسة الصنائع وكان يهوي الفن، واحد من تلاميذه كان مجنونا بالفن ويتردد علي منزله، هذا الجار هو زكريا الحجاوي، أفشي له سره ووعده الحجاوي خيرا، زار بيت حضرة الناظر واصطحب «ثريا» إلي البلكونة وكان مختار في البلكونة المقابلة، وقال لها هذا الشاب ذو الشعر الأحمر يهيم بك غراما، وباحت له بأنها كذلك تهيم به غراما، وأتي مختار إلي بيت حضرة الناظر وخطب ثريا إبراهيم، وفي فترة الخطوبة أعطاها كتابا عن الماركسية، وبعدها سألها هل قرأت الكتاب ترددت ثم قالت بصراحة قرأته عدة مرات ولم أفهم شيئا وبدأ مختار في شرح المفردات والجمل وهي تحاول جهد طاقتها أن تفهم، ثم أعطاها رواية «الأم» لمكسيم جوركي وأتت إليه مسرعة في اليوم التالي مباشرة كانت متهللة ومتحمسة وتكاد أن تصرخ، قرأت الرواية الضخمة كلها، سهرت طوال الليل حتي التهمتها وصاحت عندما رأته أنا عايزة أبقي أم «بافل» وزي «بافل» نفسه، وبافل هو بطل الرواية، المناضل الشيوعي الذي قبض عليه وسجن. وأصبحت ثريا سندا ورفيقة وزميلة وزوجة وأما.. واعتمد عليها مختار في كثير من المهام، كثيرون كانوا يأتون إلي البيت يغلقون باب الصالون، هي دون أن يطلب إليها مختار تتسمر في البلكونة لتراقب الشارع، وبدأ مختار يعتمد عليها يعطيها لفافة لتحملها إلي فلان، أو تأتي بلفافة من فلان، ذات يوم أعطاها لفافة وقال لها هذه لفافة مهمة جدا، اذهبي إلي محل أسترا في التحرير، سيحضر رفيق خارج لتوه من السجن ومن الضروري ألا يتصل به شخص معروف، كيف أعرفه؟ هو أسمر وله شنب، وجلست كل شاب أسمر تبتسم له ويبتسم لها، فتاة جميلة وشيك تبتسم لكل من يدخل، لكن أحدا لا يقترب منها، فجأة أتي شاب غير مبتسم أتي إليها مباشرة وفي حزم تسلم اللفافة متجهما ومضي متجهما، عرفت فيما بعد أنه فتحي خليل الصحفي في روزاليوسف. يومها عرف مختار أنها تستطيع أن تلعب دورا مهما كمسئولة اتصال، وبدأت لتتقن فنون العمل السري وفن الإفلات من المراقبة والتخفي وإخفاء الأوراق.. وأصبحت ذراعه اليمني. ونمضي مع مختار في رحلته الجميلة.