تبخرت فرحة الغرب بالربيع العربي، وما صاحبها من وعود صاخبة بمساعدات اقتصادية سخية، لا تعين فحسب علي الخروج من الضائقة الاقتصادية، بل وصلت في كتابات بعض اقتصاديي الغرب الي ايحاءات بمشروع "مارشال" لاعادة بناء اقتصاد تونس ومصر. وثمة تقديرات إن ما تحتاجه كل من مصر وتونس للنهوض الاقتصادي لا تزيد تكلفته عما انفقته الولاياتالمتحدة خلال شهرين فقط علي حربها في العراق. الآن تغير الكلام، وعدنا نستمع من المصادر نفسها الي حديث الازمة التي جعلت الخزائن خاوية في اوروبا وأمريكا. حتي الدول العربية الشقيقة والغنية التي توجه استثماراتها لأسواق المال في امريكا واوروبا، والمعنية بألا تصلها رياح التغيير، لم تسارع بتقديم عون يسهم فعلا في تخفيف حدة المشكلات الاقتصادية "للاشقاء"، وانصب اهتمامها علي التأثير السياسي لاحتواء الثورات. الوصفة الشهيرة ولكن يبدو ان عند الغرب ومؤسساته المالية العالمية دائما ما يستطيعون ان يمنحوه بل ويصرون علي تقديمه. فهم فعلا يواصلون تقديم النصائح. وتكمن هذه النصائح التي يحملها مبعوثو المؤسسات المالية العالمية وسفراء وخبراء في "تشجيع" مصر وتونس علي الاقدام "بمزيد من الجرأة" علي "تحرير الاقتصاد" و"الخصخصة" حتي يتشجع المستثمرون علي العودة لاسواق الربيع العربي. ومعظم شعوب العالم الثالث تعرف هذه الوصفة الشهيرة: وصفة "وداوها بالتي كانت هي الداء". وكأن العرب لم يكونوا قد سلكوا هذا الطريق الذي سماه السادات "الانفتاح" وواصله حكم مبارك، الطريق الذي ادي لتدهور اقتصادي وأخلاقي، وبؤس اجتماعي، دفع للانتفاضات العربية التي رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. طريق الرأسمالية المنفلتة أو ما يسمي نظام "اقتصادات السوق الحرة" في ظل حكم سلطوي يمنع المشاركة الشعبية في القرار، ويرفض الرقابة الشعبية، ويطبق سياسة فرق تسد، للحيلولة دون تشكل ارادة موحدة للشعب، أدي في كل البلدان ذات الظروف المشابهة، الي نشوء طغمة تضم فئات من رجال المال والاعمال والسياسيين تتحكم في البلاد وتستغل العباد. هذه تجربة الشعوب من الديكتاتوريات السابقة التي اطاحت بها شعوب امريكا الجنوبية، الي باكستان مرورا بممالك وشبه ممالك عربية علي اختلاف مسميات نظم الحكم وراياته الايديولوجية. الحكم لقلة من الطفيليين خاطفي الربح السريع، وحكومات لا تلقي بالا لمصالح الشعب، لا لأمنه الغذائي، ولا لمستوي معيشته الآدمي، ولا لتوفير اماكن عمل، ولا حتي لمحو الامية في القرن الحادي والعشرين. رغم ان بلدان الغرب الصناعية الكبري لا تعرف بعد كيف تخرج من الازمة العميقة التي اوقعتها فيها السياسات الرأسمالية النيوليبرالية فانها تواصل هذه السياسات وتسعي لترويجها عالميا. ترتيبات مؤقتة ما هذه الوصفة التي يقترحونها لمصر وتونس؟ هي ما يسمي الشراكة بين القطاعين العام والخاص. الحل السحري للخروج من الازمة واستعادة العافية الاقتصادية في رأي المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الاوروبي وتتمثل في اقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص. والمقصود بالشراكة بين القطاعين العام والخاص واسمها Public-private-Partnerships (PPPs) ان تتخلي الدولة للشركات الخاصة (العالمية علي الأغلب) عن مهام حيوية في قطاعات مثل الري وإمدادات المياه العامة، والمستشفيات، والمواصلات وما شابه ذلك لفترة محددة. (جريدة TAZ الالمانية 11.10.2011). وتذكر الصحيفة انه حتي لو كانت هذه الترتيبات مؤقتة فانها تعني في النهاية خصخصة القطاع العام. و"تبعا لذلك يشجع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تونس ومصر لتحرير أسواقهما والتوجه للشركات متعددة الجنسيات للبحث عن قروض. وقد وضع الدائنون الدوليون والشركات الغربية الكبري اقدامهم علي الباب بالفعل ومنذ زمن ولكنهم يطالبون بالمزيد من حرية الحركة." ولم يقتصر تطبيق هذه الوصفة علي دول بل جربها ومازال عدد من المدن الاوروبية الكبري (ومنها علي سبيل المثال مدن مثب دوسلدورف وماجديبورج في المانيا) للتغلب علي العجز المزمن في ميزانياتها وذلك ببيع مؤسسات يملكها الحكم المحلي مثل معامل تكرير المياه ومجاري الصرف الصحي، وخطوط الترام، وشبكات نقل الكهرباء لمؤسسات مالية امريكية لتحصل هذه المدن علي مليارات من الدولارات ثمنا لهذه المنشآت، لتسدد ديونها المتراكمة، ثم تستأجر هذه المنشآت من المشترين. المشاركة الشعبية مثل هذه الشراكة لا تمثل فحسب طريقا ملتفا يؤدي الي نزع ملكية الدولة وملكية الحكم المحلي بل اينما طبِقَت كانت أداة فاعلة لنزع اسلحة الديمقراطية. هذا جربته برلمانات دول ومدن عديدة في العالم لأن نواب الشعب لم يعد لهم سلطة التحكم في قرارات حساسة في الحياة الاقتصادية، ومنها علي سبيل المثال تحديد اسعار الطاقة او مياه الشرب أو وسائل المواصلات العامة. القرار في يد الملاك الجدد والذين يقيمون في الغالب ما وراء البحار. جمعيات المجتمع المدني في اوروبا المناهضة للعولمة تؤكد ان الديمقراطية لكي تكون معبرة عن الارادة الشعبية فعلا لا غناء لها عن قاعدة اقتصادية من الملكية العامة وملكية المحليات للمصادر الاساسية المتحكمة في مسار الاقتصاد والمجتمع منها شبكات الطاقة الوطنية والمحلية، وشبكات الامداد بالمياه، والسكك الحديدية، والمستشفيات الكبري. وتجربة دول امريكا اللاتينية التقدمية تؤكد ان اصلاحا زراعيا عميقا هو الضمان للتغيير المجتمعي الذي يضمن التقدم الاجتماعي ويحمي الديمقراطية بالمشاركة الشعبية الواسعة. ومن الواضح ان الهم الاكبر لدوائر الحكم في الغرب هو الا تعود مصر الي سياساتها الاقتصادية في عهد عبد الناصر، اي الي سياسات التنمية الوطنية المستقلة. وحسب تقديرات عدد من المؤسسات العلمية الكبري ومنها "مؤسسة العلم والسياسة" في برلين والتي تقدم المشورة للبرلمان والحكومة، لا خوف من ان تحيد مصر عن نهج الاقتصاد الحر في ظل حكم اسلامي.