إليكم رواية أحد أعضاء لجان مراقبة الانتخابات في ولاية (محافظة) صفاقس حيث حصدت النهضة 50% من الأصوات. المشاركون 4,5 مليون من الهيئة الانتخابية 7,5 مليون. يمثل المشاركون 76% ممن تسجلوا في الانتخابات و15% ممن لم يتسجلوا. لماذا صوتوا للنهضة؟ نصف ناخبيها صوتوا لها طمعا في دخول الجنة: "اليوم نصوت لربنا!" .هذه النسبة تنسحب حتي علي ال 50% الذين انتخبوها في فرنسا. 15 ألف ناخب في برلين صوتوا لها جميعا. نسبة غير محددة صوتت لها احتجاجا علي أحزابها الديمقراطية. غداة انتصار النهضة ندموا قائلين لو كنا نعلم أنها ستنتصر ما انتخبناها! في فرنسا مثلا 18% يصوتون احتجاجيا لأقصي اليمين: ولو تأكدوا من أنه سينجح بأصواتهم لما فعلوا؛ مناضلو النهضة كانوا يزورون الناخبين ، خاصة في الأحياء الفقيرة، قائلين لهم : صوّتوا للنهضة أو للمؤتمر(أي حزب المنصف المرزوقي)؛ قيادات الأحزاب الديمقراطية الكبري كانت تتوقع فوز كل منها ب 25% من الأصوات وأن النهضة لن تتجاوز هذه النسبة؛ جمهور النهضة متعصب وعدواني: يكفي أن تتهمهم بأنهم حزب ديني حتي يردّوا عليك صارخين: "أنت كافر" ؛ تتوقع النخب السياسية أن حكم النهضة لن يدوم أكثر من عام لأنه سيخيب آمال معظم ناخبيه وستتحطم أوهامها علي صخرة الواقع التونسي والدولي لأنه مازال حزبا احتجاجيا ولن يتحول بسرعة إلي حزبِ حُكْمٍ. إلي هنا تنتهي رواية شاهد العيان. العالم الذي نعيش فيه، كما قلت ذلك مرارا، غير قابل للتوقع. ومع ذلك يبدو لي أن فشل النهضة لا يندرج في الأمد القصير بل في الأمد المتوسط أو البعيد. منطق خلافة الحكومة الدينية للحكومة السلطوية، في أرض الإسلام، اتجاه تاريخي لن يتلاشي قبل أن يأخذ مداه، فضلا عن أن مناخ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مُواتٍ تاريخيا لأقصي اليمين. وليس مصادفة أنه في اليوم الذي انتصرت فيه النهضة، فاز أيضا أقصي اليمين السويسري ب 30% من الأصوات. وطوال عامي 2010 و2011 حقق أقصي اليمين اختراقات انتخابية في جُلّ بلدان الاتحاد الأوروبي التي جرت فيها انتخابات. الأزمة تثير الفزع. المفزوع لا يستشير دماغه المعرفي العقلاني، بل دماغيه الغريزي والانفعالي: لا يبحث عن حلول واقعية لواقعه، بل عن شركة تأمين ضد أخطار المستقبل. فحيث مازال العقل الإلهي سائدا، كما في أرض الإسلام، شركة التأمين علي المستقبل هي الله. وحيث ساد العقل البشري علي حساب العقل الإلهي، كما في الغرب، شركة التأمين، عند القطاع الأكثر هشاشة نفسية واجتماعية من السكان، هي الأب الاجتماعي: الزعيم الساحر الذي يقدم لهم أكباش المحرقة كإسمنت لوحدتهم. القطاع المصاب بالهذيان الديني من الجاليات الإسلامية الأوروبية غير مقصّر في تقديم هذه الأكباش لأقصي اليمين! وصيتي للكتلة التاريخية: أعني بالكتلة التاريخية الأحزاب الديمقراطية التي لن تتجاوز ضعفها الحالي إلا إذا اتحدت في كتلة تاريخية تضم أيضا ممثلي الإسلام المستنير. معيار الاستنارة هو القبول بمبدأ أردوغان المذكور أدناه. منافسة النهضة علي انتزاع ناخبيها منها هو وصفة للفشل؛ الرهان الحقيقي هو كسب 6 ملايين ناخب ممن لم يصوتوا لها، بتثقيفهم بثقافة الديمقراطية: النقاش المتعارض بعيدا عن التخوين والتكفير السائدين في جمهور النهضة، بتحديث ذهنيتهم بمشروع اجتماعي سياسي العقلانيةُ منطلقه والحداثة رائده. إليكم خطوطه الكبري: النضال السلمي اليومي من أجل دستور، علي غرار الدستور التركي الإسلامي، يلغي عقوبة الزنا والإعدام ويعترف للمسلم بالحق في تغيير دينه. يتبنّي مبدأ أردوغان: "مصالحة الإسلام مع الحرية والديمقراطية والعلمانية، ودولة علمانية تقف علي مسافة متساوية من جميع الأديان وتحترم اللادينيين، كما عليهم هم أن يحترموها" علي حد تعبير رجب الطيب أردوغان. تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقات الدولية المتممة له مثل اتفاقية منع التمييز ضد المرأة، وحماية حقوق الأقليات وحقوق الطفل وتدريسها في جميع مراحل التعليم. فرض احترام سلامة البيئة وتدريسها في جميع مراحل التعليم وتنمية مستدامة تحفظ حق أجيال الغد في بيئة نظيفة وموارد وفيرة. الاعتراف للعمال بحق التنظّم في نقابات، وفي حد أدني للأجور، وفي العمل، وفي الضمان الصحي والحقوق الاجتماعية المعترف بها للإجراء في البلدان الديمقراطية. الاعتراف لأعوان الأمن والحرس الوطني بالحق في تكوين نقابات خاصة بهم كما هو الحال في البلدان الديمقراطية. احترام استقلال القضاء والاعتراف للقاضي بعدم قابلية العزل والمساءلة القانونية إلا بقرار من المجلس الأعلي للقضاء المنتخب، والاعتراف بالهيئات النقابية التي تمثل القضاء. تحديد الاعتقال التحفظي بجعله قابلا للتجديد مرة واحدة، ومحاكمة المتهمين بحالة سراح إلا في جرائم العنف الشديد والقتل والاتجار بالمخدرات والأسلحة والإرهاب. وبناء عليه تحرير جميع المعتقلين السياسيين الحاليين من وزراء ومستشارين وقادة "التجمع" المعتقلين تعسفياً منذ عشرة شهور. منع التعذيب وجعل السجون تحت رقابة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية وتمكين الإعلام الوطني والعالمي من زيارتها ومقابلة المساجين للتأكد من احترام الحقوق الأساسية. هذه بعض المعالم والمبادئ الأساسية الجديرة بأن يتبناها المشروع المجتمعي لأحزاب الكتلة التاريخية للنضال اليومي من أجل إدراجها في الدستور. تحقيق ذلك صعب الآن، نظرا لاختلال ميزان القوي في المجلس التأسيسي حيث الغالبية لأقصي اليمين الإسلامي المعادي للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع ذلك فالمطالبة الدائمة بإدراجها في الدستور وطرحها للنقاش في الإعلام، خاصة السمعي البصري، وفي المنتديات والأحزاب وجمعيات المجتمع المدني وخاصة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ضرورية لترسيخها في الوعي الجمعي، الذي لم يقطع بعد مع موروثه الديني المنحدر من القرون الوسطي ، عسي أن يستبطن أخيرا عدم انتهاكها وعدم السكوت عن انتهاكها. في السياسة الإقليمية: يحسن التركيز، بدلا من الوحدة المغاربية البعيدة المنال، علي مناطق تبادل حر مغاربية وعربية تمهّد لسوق مشتركة مغاربية ثم عربية تتطلبها العولمة ،حيث تدور المنافسة الاقتصادية الضارية بين تكتلات اقتصادية لا بين دول؛ مساندة السلطة الفلسطينية في نضالها السلمي من أجل دولة فلسطينية قابلة للحياة ومن أجل المصالحة الوطنية الفلسطينية الضرورية لتحقيق هذا الهدف الواقعي؛ إقامة علاقات وثيقة مع حزب العدالة والتنمية التركي من أجل تحقيق مبدأ أردوغان الضروري لإصلاح الإسلام :" ضرورة مصالحة الإسلام مع الحرية والديموقراطية والعلمانية " ،إضافة إلي مشروع "تحديث الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان" لكاتب هذه السطور؛ بالمثل إقامة علاقات وثيقة مع الأحزاب الديمقراطية المغاربية والعربية بما فيها أحزاب وسط اليمين ووسط اليسار الإسلامي كحزب الوسط في مصر. في السياسة الدولية: إقامة علاقات صداقة وتبادل سياسي وثقافي مع جميع الأحزاب الديمقراطية في العالم وخاصة أحزاب الجوار الأوروبي ومجتمعاته المدنية ومع المجتمع المدني العالمي ومنظماته المدافعة عن حقوق الإنسان مثل العفو الدولية التي يشرّفني أنني كنت دائما متحمسا لها وعضوا فيها. انتصار الجناح العنيف والتكفيري في "النهضة" بقيادة الغنوشي وشورو كفيل بأن يسهّل لأحزاب الكتلة التاريخية تعبئة قطاعات مهمة من النساء، والشباب، والإسلاميين المستنيرين بما في ذلك داخل النهضة نفسها والمثقفين النقديين للتشهير بالعنف الديني وتفكيك مصدره: إسلام القراءة الحرفية للنص المؤسس، إسلام الولاء والبراء، إسلام "البغض في الله والحب في الله" (ابن تيمية)، و"المسلمون يقاتلون الكفار لكفرهم وليس لعدوانهم" و" لا يجوز ابتداء أهل الكتاب بالسلام ولا تجوز مصافحتهم تحت أي ظرف" و" يجب منع النصاري والنصرانيات من العمل داخل المجتمعات الإسلامية" و" يجوز لعن النصاري واليهود " و" البلد الذي يحكم فيها بالقانون الوضعي ليست بلد إسلام ويجب الهجرة منها "(محمد بن ابراهيم حفيد ابن عبد الوهاب). التشهير بالعنف الديني وتفكيك إسلام الولاء والبراء ضروريان للوصول إلي تدين روحي حديث وإلي إسلام مسالم، شعاره تعريف حديث محمدي للمسلم: "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه"، ومن أجل صياغة وعي ديني معاصر لعصره، أي متشبع بقيم حقوق الإنسان والمواطن التي لا يكون الإنسان من دونها حقا إنسانا. فلا تَهَنُوا ولا تَحْزَنُوا "للفجر لا للمساء الكالح القُبَلُ" كما يقول سليمان العيسي. مانديلا لم يكتب الرسالة تبادلنا 3 رسائل اتضح منها أن نلسون مانديلا لم يكتب رسالة "الربيع العربي" التي علقت عليها ورجاني أن أقول ذلك لقرائي. رفض الإجابة عن سؤالي له عن رأيه في الربيع العربي ونصيحته لصانعيه والمستفيدين منه محتجا بأن: "عمري 93 عاما وقد تقاعدت نهائيا عن كل نشاط سياسي". استنتاجي الشخصي أنه يخشي أن يكون "الربيع العربي" خريف النساء وشتاء شعوب العالم العربي وأقلياته الدينية والقومية، كما يأبي خاصة مقارنة الحكومات السلطوية العربية ،التي ساندت نضاله ضد الحكم العنصري ، بحكومة البيض ، ومقارنة قيادات وحركات أقصي اليمين الإسلامي التفتيشية التي صادرت، كما كان متوقعا، انتفاضات "الربيع العربي" بقيادته وحركته الديمقراطية العلمانية. القتل لا أخشاه ولا أتمناه في أكتوبر 2011 هاتفني جامعي تونسي متقاعد قادم من تونس للقاء في باريس. كان مرتبكا، علي غير عادته، أبي أن نجلس بجوار 3 فرنسيين "حتي لا يسمعونا"... حدستُ فورا أنه يشعر بالذنب وبالعار من نفسه من مهمة قذرة قد يكون كُلّف بها. طلب، وألحّ في الطلب، عنواني الذي ضيعه ولم يعد يذكر منه إلا الرمز البريدي، فأعطيته إياه فقرأه جيدا للتأكد منه قائلا أريد أن أرسل لك به كتابا له.. وضعه في محفظة نقوده. ثم سأل: ما تكتبه ضد الإسلاميين في تونس خطير عليك.. أكتب ما أفكر فيه حقا غير مبال بالأخطار. إنّك تقامر بحياتك. ومتي لم أقامر بها؟ هذه المرة قد تُقتَل... سيكون قاتلي في سباق مع السرطان. الشهادة لا أخشاها ولا أتمناها. لكن مع ذلك أفضل أن تكون بديلا عن موتي بالسرطان علي فراشي كما يموت البعير. العقلانية والعلمانية وإصلاح الإسلام في حاجة إلي شهيد، ولا بأس أن أكون هذا الشهيد لتنافس كتاباتي في انتشارها البخاري ومسلم معا.. أكتب هذه الوصية ليس لعناية أية محكمة أخري سوي محكمة أعرفها وأعترف بها: محكمة التاريخ. أرجو من قضاتها قراءة التعليقات علي رسائلي ومقالاتي في إيلاف والحوار المتمدن... وستكتشفون المجرم الذي ما انفك يوحي للارهابيين بضرورة قتلي "دفاعا عن الإسلام"!