الآن وبعد ربع قرن من السياسات الاقتصادية ربما كان الحديث عن الأمن الغذائي المصري ومعدلات الأكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الأستراتيجية مثل القمح والزيت والذرة وحتي الأرز أمر طبيعي في ظل الأزمات السلعية التي تشهدها مصر بعد ثورة 25 يناير, والتي لم تتوقف عند حد ارتفاع الأسعار لمنتجات تلك السلع ولكن امتدت الأزمة لتشمل العديد من السلع التي كانت مصر تتمتع فيها بالأكتفاء الذاتي وحتي التصدير مثل السكر والأرز. وفي الأسابيع الماضية بدأ العديد من الخبراء وأساتذة الأقتصاد الزراعي في اطلاق الدعوات لطرح المسألة الزراعية والأكتفاء الذاتي من المحاصيل الأستراتيجية علي مائدة البحث لوضع سياسات واجراءات لتحقيق الامن الغذائي المصري او علي الاقل تجنب التهديدات التي يتعرض لها الان .لكن الغريب انه رغم خطورة الوضع الحالي فإن الحكومة الحالية مثل غيرها من الحكومات السابقة لم تعير او تتنبه للسياسات الزراعية عندما عقدت اجتماعا خلال الاسابيع الماضية لوضع مخطط عام لمصر بعد 40 عاما وكأن اي مخطط مستقبلي هو عبارة عن خرائط عمرانية وتعداد سكان والزيادة المتوقعة لكن لم يتم الافصاح عن مغزي هذا المخطط العام وماهو المستهدف من زيادة المساحات الزراعية والتوقعات المستقبلية لانتاج المحاصيل الاساسية ومدي معدلات الاكتفاء الذاتي . وطبقا لما قاله د.أشرف كمال عباس الخبير بمركز البحوث الزراعية فإن قضية الأمن الغذائي المصري الان قضية جوهرية في ظل المتغيرات المحلية والدولية وفي ظل التزايد السكاني ويكفي ان الموقف الغذائي العالمي اصبح اكثر تعقيدا اعتبارا من عام 2008 لاول مرة في التاريخ بعد الازمتين الشهيرتين :الأزمة المالية العالمية وأزمة الغذاء العالمي . وتقول التقارير التي حملها د.كمال عباس إن نسبة الأكتفاء الذاتي من السلع الساسية قد تراجعت طبقا لمؤشرات عام 2009 فمثلا القمح لم تتعد نسبة الاكتفاء الذاتي منه 54% والذرة الشامية 61% أما الارز وهي الكارثة الكبري فبعد ان كانت نسبة الاكتفاء الذاتي منه تتعدي 111% فقد فتحت الحكومة باب الاستيراد من الخارج لاول مرة في مصر في حين ان السكر الان السلعة التي كانت مصر تتمتع فيها بميزة نسبية اصبح الان مثل القمح نستورد منه كميات كبيرة في محاولة لسد العجز في الانتاج المحلي حتي اصبح معدل الاكتفاء الذاتي الان لا يتعدي 60% . هذة القضية لم تعد مرتبطة الان بمدي توافر الاراضي الزراعية فقد اهملت مصر استصلاح الاراضي علي مدار ربع قرن او اكثر ولكنها اصبحت محكومة الان بالمياه في ظل النزاع الدائر مع دول حوض النيل فيما يتعلق باعادة توزيع الحصص بين دول الحوض وتعديل الاتفاقيات التاريخية التي كانت تحكم تلك القضية .وطبقا لما قاله د.صلاح محمود عبدالمحسن الخبير بمركز بحوث الاقتصاد الزراعي فان هناك تراجعا في نصيب حصة الفرد من المياه من 1047 متر مكعب عام 1990 لتصل الي 650 متر مكعب سنويا منذ عام 2005 وهذا يدل علي دخول مصر عصر ندرة المياه والمعروف عالميا باسم مستوي الفقر المائي حيث تقل نسبة الفرد الي ما دون الف متر مكعب للفرد في السنة . وفي الحقيقة فان الامن الغذائي المصري لم يعد رهن هذه المشكلات فقط ولكن عدم ضخ استثمارات في القطاع الزراعي قد ادي الي اهمال قضية الامن الغذائي المصري ولو كان هناك مجرد نظرة او مساواة بين هذا القطاع وبقية القطاعات الاقتصادية لما اصبح الامن الغذائي المصري رهن المتغيرات الدولية وحتي المحلية .وهنا يؤكد د.احمد الموافي بمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي ان نصيب القطاع الزراعي من الاستثمارات الكلية المنفذة خلال الفترة من 2000 وحتي 2009 لم تتعد 7.8 مليار جنية اي مايعادل 7% من اجمالي الاستثمارات البالغ 115.9 مليار جنية خلال نفس الفترة. لذلك لم يكن غريبا ان ينعكس ذلك علي تدني نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الاجمالي في الوقت الذي يعمل في هذا القطاع 5.7 مليون فرد تمثل حوالي 26% من قوة العمل في مصر . ونتيجة هذا الوضع اصبحت مصر الان من اكبر الدول المستوردة للقمح في العالم وفي سوق يوصف دائما بكونه احتكاريا فيما يتعلق بالعرض ويتسم كذلك بالمنافسة الاحتكارية فيما يتعلق بالطلب كما يقول د.اشرف كما عباس - بدليل ان مصادر الواردات المصرية من القمح تركزت في دولتين فقط تمثلان 59% من اجمالي الواردات المصرية وهما روسيا والولايات المتحدةالامريكية .لذا فان مصر تواجة بعض المخاطر بسبب اعتمادها علي تلك الدولتين بنسبة عالية من حيث احتمال استخدام القمح كأداة ضغط سياسي لتنفيذ بعض السياسات . مشيرا الي ان الواردات المصرية السنوية من القمح تقدر بحوالي ستة ملايين طن تمثل 73.3% من متوسط حجم الانتاج السنوي البالغ 7.3 مليون طن وبما يعادل 46.3% من متوسط الاستهلاك السنوي وما يقرب من 14% من اجمالي الواردات العالمية من القمح وذلك طبقا للمتوسطات السنوية للآستهلاك والانتاج والاستيراد خلال الفترة من 2000 وحتي 2009 . وفي النهاية يؤكد الخبراء ضرورة أن تشتمل الرؤية المستقبلية علي تكامل بين اسلوبين وهما الاهتمام بالاراضي القديمة بالوادي والدلتا مع التركيز علي صغار المزارعين وربطهم من خلال كيان مؤسسي بأنشطة التسويق المحلي والثاني هو المزارع التجارية الموجهة للتصدير والتصنيع الزراعي ولكن دون التعدي الان علي سنتيمتر واحد من الاراضي الزراعية علي اعتبار أن تنمية القطاع الزراعي يواجة اشكالية وهي الضغوط في ظل محدودية المساحة علي الرغم من أن القطاع العقاري قد نما تاريخيا علي حساب القطاع الزراعي المصري .