اعتصام.. الدكاترة! إذا كانت النخبة من حملة الدكتوراة والماجستير تمارس البلطجة.. وتحتل مكتب وزير البحث العلمي.. فماذا ننتظر من عامة البسطاء الذين لم يحصلوا علي التعليم الأساسي؟! أراد المئات من حملة الدكتوراة والماجستير.. أن يعربوا عن غضبهم.. لأن الحكومة لم تصدر قرارات تعينهم علي كادر أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ومراكز البحوث.. ولم تنشئ لهم الوظائف الأكاديمية وتخصص لهم الميزانيات وأن يحصلوا علي مكانة العلماء التي تتجاوز مكانة علماء الأزهر الشريف. تفتكروا عملوا إيه؟ اتفقوا فيما بينهم علي احتلال الدور الثالث من وزارة البحث العلمي وتمددوا في الطرقات.. وأعلنوا الاعتصام حتي تخضع الوزارة لمطالبهم واستمرت هذه الحالة الاعتصامية لمدة شهرين كاملين.. أبعدتهم عن القيام بصالح الأعمال.. وظلوا جالسين لا يشغلهم في الحياة سوي الفتور والكسل ورفع اللافتات المشحونة بالأخطاء اللغوية والإملائية علي أساس تبحرهم في العلوم الإفرنجية التي لا تقتضي إتقان لغتهم العربية. ودارت الأيام ولم تسارع الوزارة بتلبية مطالبهم.. فأطلقوا صيحة واحدة.. اتجهوا بعدها لنقل اعتصامهم إلي الدور السابع في مبني الوزارة حيث يقع مكتب الوزير معتز خورشيد وافترشوا جميع الطرقات المؤدية لمكاتب وكلاء الوزارة.. واحتلوامكتب الوزير ورفضوا المغادرة حتي تتحقق مطالبهم.. وتعيينهم علي كادر أعضاء هيئة التدريس بالجامعات ومراكز لا يشغلها سوي صفوة العلماء الذين حصلوا علي درجاتهم العلمية وتخصصاتهم وفق احتياجات هذه الجهات رفيعة المستوي.. إذ ليس كل من حصل علي درجة الدكتوراة بناء علي اختياراته الشخصية.. وفي موضوعات علمية لا ترقي لمستوي شغل المواقع العلمية في مراكز البحوث.. والجامعات.. أن يفرض علي الحكومة.. أي حكومة.. في أي بقعة في العالم.. تعيينه بالقوة وبالاعتصام. أوقات فراغ العلماء في مراكز البحوث في كل أرجاء الدنيا.. هم صفوة علماء أي دولة.. وهم النخبة الذين تتخاطفهم جامعات ومراكز البحوث المشهود لها بالرقي الفكري و«السلوكي». أستاذ الجامعة في الدول الراقية ليس مجرد حاصل علي درجة الدكتوراة.. وإنما هو صاحب موهبة.. يمضي حياته وأوقات فراغه في متابعة أحدث التطورات في مجال تخصصه.. فهو «عالم» و«أستاذ» وليس مجرد حامل لشهادة درجة علمية من «بير السلم» لإحدي الجامعات التي تلقي في الشوارع كل سنة بالآلاف من العاطلين.. الذين يفتقدون وقار العلماء.. واستخلاص أحدث الأبحاث من بطون الدوريات العالمية. يضاف إلي ذلك أن المئات من حملة الدكتوراة والماجستير الذين اعتصموا داخل وزارة البحث العلمي واحتلوا مكتب الوزير وعطلوا أعمال وكلاء الوزارة.. لم يحصلوا علي هذه المؤهلات بناء علي خط بحث علمي أعدتها الوزارة.. ولا في الفروع العلمية التي حددتها الدولة بناء علي خطتها الشاملة.. ولا بموافقة الوزارة.. وإنما قاموا بهذه الدراسات من تلقاء أنفسهم.. وبناء علي اجتهادات شخصية من جانب كل واحد منهم، وبالتالي.. فلم يكن من المعقول تعيين كل حاصل علي درجة الدكتوراة علي كادر هيئة التدريس في الجامعات.. الأمر الذي يؤدي لتضخم أعداد الأساتذة.. وربما يزيد عددهم عن عدد الطلبة، وتزيد ميزانية مرتبات الأساتذة عن ميزانيات البحث العلمي الجاد التي تسمح لنا بمواكبة ما يجري حولنا في مراكز البحوث العالمية. إن مراكز البحوث في الدول الراقية.. لها قدرة استيعابية لا تتجاوزها ولا تتخطاها.. بناء علي ضغوط أرباب المصالح الخاصة.. أو ابتزاز أصحاب مفاتيح الحل والربط.. ولهذه المراكز ميزانياتها التي يجري تمويلها من دم وعرق وكفاح كل مواطن، ولذلك فإن علماء الجهات البحثية.. هم النخبة النادرة التي ينطبق عليها الحديث الشريف «العلماء ورثة الأنبياء». سلوكيات غريبة ولا يمكن أن يتصور مواطن واحد.. قيام 9 أعضاء من هذه الصفوة بالاعتصام علي نحو ما جري في وزارة البحث العلمي منذ أيام.. من أجل التعيين علي كادر أعضاء هيئة التدريس بالجامعات. السخيف في الموضوع.. أن ما جري في وزارة البحث العلمي.. يعكس الثقافة السائدة منذ اندلاع الحالة الثورية المجيدة في 25 يناير الماضي.. والتي باتت تشكل نكبة من النكبات التي نزلت علينا.. فجأة.. وأطاحت بالعديد من القيم النبيلة التي تفتحت عليها عيوننا منذ قديم الأزل. كل مواطن يحاول أن يأخذ حقه بذراعه.. بصرف النظر عما يحدث هذا السلوك المعيب من تأثير.. علي المجتمع، وعلي المصلحة العامة.. وعلي احساس كل واحد منا.. بالأمن في وطنه وبين ناسه. مفهوم طبعا.. أن ما نراه اليوم من سلوكيات غريبة علينا وعلي قيمنا.. هي نتاج 30 سنة من ممارسات النظام الإجرامي البائد الذي أشاع بين الناس الأنانية.. ونهب المال العام.. وإذلال الرقاب.. ولكن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا للاستكانة وترك الحبل علي الغارب.. وإنما يدعونا لدق أجراس الخطر.. واستنهاض الهمم. وأمتنا العظيمة التي ننتمي إليها في حاجة لرموز وإلي قدوة.. وإلي سلوكيات للصفوة.. تشيع بين البسطاء الذين لم يحصلوا علي التعليم الأساسي ولا درجات الدكتوراة أجواء الرقي والتحضر.. ونبذ ثقافة أخذ الحق بالذراع. فإذا كانت النخبة من حملة الدكتوراة والماجستير تمارس البلطجة.. وتحتل مكتب وزير البحث العلمي وتعطل أعمال وكلاء الوزارة.. فماذا ننتظر من عامة البسطاء الذين يمارس البعض منهم أقصي درجات العنف لأتفه الأسباب؟ منذ أيام نشرت الصحف أن سيارة مجهولة قد دهست صبيا في طريق وادي النطرون علي طريق مصر اسكندرية.. مما أثار غضب أهالي المنطقة.. فتجمع الآلاف منهم علي الطريق وأشعلوا النيران في الإطارات ومنعوا مرور السيارات في الاتجاهين بين القاهرة والإسكندرية.. فتعطلت حركة الانتقال تماما.. ووقفت طوابير سيارات حتي الساعات الأولي من صباح اليوم التالي حتي تعهد المسئولون بإنشاء كوبري علوي في المنطقة.. وعدد من المطبات الصناعية. صيحة الذئاب وفي اليوم نفسه قطع أهالي قرية عبادة.. بإدفو.. الطريق السريع بين أسوانوالقاهرة لمدة ست ساعات احتجاجا علي ارتفاع منسوب المياه الجوفية التي تهدد منازلهم.. مما أدي لتعطل 9 أوتوبيسات تقل عددا من السائحين.. ونفي مصدر أمني صحة ما تردد عن اختطاف عدد من السائحين. وفي اليوم نفسه توقفت حركة القطارات في أسيوط لمدة ساعتين بسبب تجدد الاشتباكات المسلحة بين عائلتي مكادي وسليم بقرية الحواتكة التابعة لمركز منفلوط وأسفرت عن مقتل شخص وإصابة 20 آخرين من العائلتين.. وتعطل سير القطارات في الاتجاهين. ولانزال نذكر ما وقع في قنا.. أثر صدور حركة تعيينات المحافظين.. وغيرها من الحوادث المتشابهة والمتكررة التي يمكن إدراجها تحت بند.. أخذ الحق بالذراع.. وتوقيع العقوبات الجماعية التي تمس مصالح غالبية المواطنين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الصراعات المحتدمة. العقلية نفسها.. والثقافة ذاتها.. وكأن التعليم عندنا يحرث في البحر.. ولا يغير ما بقوم.. يجلسون في الصف الأول ويصيحون صيحة الذئاب كلما وقعت أبصارهم علي فريسة. وعلي نفس المقامات تسمع علي سبيل المثال أن تاجرا في شبرا الخيمة ذبح زوجته لأنها وقفت بقميص النوم في شرفة منزله. هو لم يعاتبها.. أو يحذرها من ألسنة الوشاه والرقباء.. وخشية أفاعيل الفتنة علي الأهل والجيران.. وإنما توجه إلي المطبخ وأمسك بالسكين وذبحها.. واتصل برجال المباحث يزف إليهم النبأ.. وبراءة الأطفال في عينيه. حوادث عجيبة وثقافة غريبة علينا.. انظر مثلا لحكاية الرجل الصعيدي الذي اصطحب زوجته إلي مطعم للكشري بمدينة ديروط.. بمناسبة العيد.. كي يتقرب إليها وينفق عليها من حر ماله.. بدعوة الكشري.. وخلال وجودهما في حالة من النشوة لاحظ الإعجاب بزوجته يلمع كالبرق في عيون بعض رواد المطعم.. الذين استخدموا ألفاظا تنم عن إعجاب أثار غضب الزوج العاشق، فماذا فعل؟ اصطحب زوجته إلي المنزل.. واستدعي أقاربه.. وتوجهوا لمكان المطعم.. فأمطروه بالأعيرة النارية من بنادقهم الآلية فأصابوا عشرة أشخاص.. منهم أربعة في حالة خطرة.. وقام الزوج بتفجير اسطوانة الغاز الخاصة بالمطعم.. فدمره تدميرا.. قبل فراره من مكان الحادث بصحبة أقاربه! إنها الغيره.. أليس كذلك.. الغيرة القاتلة..؟! زمان.. علي أيامنا.. في عشرينيات القرن الماضي.. كنا نستمتع بصوت محمد عبدالوهاب وهو يغني: أغار من قلبي.. إذا هام بلقياك! أي أن عبدالوهاب كان يغير من قلبه.. إذا هام قلبه بحبيبة القلب.. التي ينافسها قلبه علي عشقها! الآن تغيرت الأحوال.. وتبدلت الأزمان.. وانخفض مستوي العشاق من لقاءات بين الزهور والرياحين إلي لقاءات بين أطباق الكشري.. تنتهي بسفك الدماء.. وباتت الغيرة مبررا لإطلاق الأعيرة النارية من البنادق الآلية.. بعد أن اختفت من حياتنا ثقافة المنازلة بالسيوف التي تثير الغرام وتهيج الأشجان. كانت كل منازلة.. هي أرقي ألوان المغازلة.. وكانت حمرة الشفاه تبدو من فرط الخجل.. وليس من فرط الشطة فوق البصل علي أطباق الكشري. رسالة خاطئة المهم.. إن اعتصام الدكاترة.. بأقدس أماكن البحث العلمي في مصر، هو الدليل علي تدني مستويات التعلم في ظل النظام الإجرامي البائد.. واختفاء التربية الصحيحة في البيوت.. وانخطاط قدر المدرجات العلمية الرفيعة التي كانت تضرب بحامليها الأمثال في عزة النفس.. وتحمل مشاق العلم بما فيها من العبر والمواعظ التي تعد من أهم منابع ثروة الأمم. نحن الآن.. أمام العديد من الظواهر السلبية التي انطلقت من عقالها بعد اندلاع الحالة الثورية في 25 يناير الماضي.. والتي فتحت عيوننا علي جيوش جرارة من البلطجية الذين ألحقوا بالبنية الأساسية لهذا الوطن العظيم دمارا في ظل السلم تعجز جيوش الأعداء عن تحقيقه في ظل الحرب. قوانين الحرب تمنع القوات المعتدية من إلحاق الخسائر بالمدنيين أو تدمير خطوط السكك الحديدية أو إحراق المتاحف ونهب محتوياتها.. أو قطع الطرق الرئيسية.. إلخ.. ولكن كل هذه الأعمال التي تعد من قبيل جرائم الحرب.. جري ارتكابها علي أيدي أناس لا يقدرون قيمة أوطانهم أو علي أيدي جماعات تعلن الإضراب والاعتصام من أجل مطالب فئوية من ميزانية وطن.. ينزف. عندما ينزف الوطن.. تحت جحافل فلول النظام الإجرامي البائد.. فعلينا أن نقدم له الدم.. وننسي أوجاعنا القديمة والجديدة.. فليس ذلك وقت الاعتصام.. يا دكاترة.. البحث العلمي.. يا من كنا نضع عليهم الآمال من أجل النهضة والتقدم.. واللحاق بركب الأمم الراقية! وعلينا أن ندرك.. أن كل حماقة يرتكبها البعض منا هي رسالة خاطئة إلي العالم حول سلوكيات شعبنا العظيم الذي يؤمن بالقيم النبيلة.. وبالحب!