الولايات المتحدةالأمريكية صاحبة أكبر وأقوي اقتصاد في الأرض تعيش «بالسلف» وتنفق علي مواطنيها من أموال «مقترضة» من مختلف دول العالم، وتنفق أيضا علي جنودها وحروبها في أفغانستان والعراق من الأموال التي «تستلفها»، ولا توجد مشكلة لدي الولاياتالمتحدة في أن تقترض ما تشاء، فالدول الكبري التي لديها فوائض مالية لا تملك دائما المشروعات الخاصة بها لتوظيف تلك الفوائض وتجد في أذون الخزانة الأمريكية الحل الأمثل لاستثمار تلك الأموال الرهيبة، فالأذون مضمونة من البنك المركزي الأمريكي، الذي يطرح هذه الأذون في البورصات العالمية فتلقي منافسة للشراء، إلي درجة أن عائد تلك الأذون أصبح متدنيا للغاية، ورغم ذلك فأذون الخزانة الأمريكية هي الوعاء الاستثماري الأسهل لكثير من بلدان ومؤسسات العالم. والنتيجة علي كل حال أن وصلت الديون الأمريكية إلي أرقام مذهلة تماثل حجم اقتصاديات قارة بأكملها، حيث بلغت 3.14 تريليون دولار، والتريليون الواحد هو ألف مليار وتبلغ فوائد هذه الديون سنويا 414 مليار دولار في نهاية العام الماضي. صراع الحزبين وتحولت تلك الديون الرهيبة إلي صراع سياسي خطير بين الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، وشهد مجلس الكونجرس مناقشات حامية طوال الأسابيع الأخيرة تخللتها مفاوضات شاقة للتوصل إلي حل للأزمة، بعد أن رفضت الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السماح لإدارة الرئيس أوباما بمزيد من الاقتراض ورفع السقف لعدة مليارات أخري، واتجهت الأمور نحو التأزم في ظل موافقة مجلس النواب ومعارضة مجلس الشيوخ، ولم يعد باقيا سوي أن يستخدم الرئيس أوباما «الفيتو» ضد أي قرار معارض من مجلس الشيوخ مما يزيد من تعقيد الأزمة والمواجهة بين الرئيس والحزب الديمقراطي من ناحية والجمهوريين من ناحية أخري، وأصبح يوم أمس الثلاثاء هو التاريخ النهائي للوصول إلي حل يمكن الولاياتالمتحدة من مواصلة الاقتراض ودفع أقساط الديون والوفاء باستحقاقاتها المختلفة تجاه برامج الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية وحماية الفقراء وتوفير نفقات القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، وإلا فإن البديل هو التوقف عن دفع الديون وبالتالي التسبب في إدخال العالم كله إلي أزمة مالية عالمية ستكون بلا شك الأسوأ والأخطر في تاريخ الرأسمالية العالمية والاقتصاد الحر، علاوة علي تأثيرات سلبية بالغة الخطورة علي الأحوال الداخلية وإفشال كل البرامج الاجتماعية والصحية والتعليمية التي بدأتها إدارة أوباما، وضرب أي فرصة له لإعادة ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة في 2012. الاقتصاد العالمي لأن المخاطر عميقة علي الاقتصاد العالمي بالذات في ظل أزمة دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في منطقة اليورو (13 دولة)، فإن الاقتصاد العالمي علي الصعيد المالي لن يتحمل بالتأكيد عواقب أزمة توقف أمريكا عن سداد ديونها فإن جهود اللحظات الأخيرة قد تنجح في التوصل إلي حل لتلك الأزمة، بعد أن قدم أوباما عديدا من التنازلات في إطار خطة تقشف صارمة لتخفيض الديون والنفقات بمقدار 4 تريليونات دولار في عشر سنوات علي حساب البرامج الاجتماعية الأساسية، وهو ما جعل أوباما ينفذ مضطرا وصفات اليمين الأمريكي المحافظ يتخلي عن برامجه ذات الطبيعة «الاشتراكية». كيف وصلت أمريكا إلي تلك الأزمة الدين القومي أو الدين العام هو تراكم الأموال التي اقترضتها الولاياتالمتحدة عاما بعد عام لتغطية العجز في الميزانية الناتج عن الصرف علي بنود الانفاق، ذلك أن جملة الدخل الحكومي المتحقق من الضرائب التي تجنيها الحكومةمن دخل الشركات والأفراد وهو المورد الرئيسي للتمويل في أمريكا يقل عن الإنفاق وبالتالي تلجأ الولاياتالمتحدة إلي إصدار أذون الخزانة التي أصبحت أهم وعاء استثماري وادخاري لدول العالم الكبري تتقدمها الصين التي تعد أكبر مستثمر في السندات الأمريكية بحوالي 5.1 تريليون دولار تليها المصارف الأوروبية بحجم استثمارات نصف تريليون دولار، ثم دول الخليج العربي النفطية ومليارديرات النفط والسلاح العربي والدوليين وحتي المافيات الكبري التي تتاجر في المخدرات تجد لنفسها طرقا مختلفا لشراء أذون الخزانة. والديون الأمريكية أخذت تزداد عاما بعد عام وكانت في الحدود الآمنة في بداية التسعينيات من القرن الماضي فأيام جورج بوش الأب كان العجز في الميزانية الأمريكية حوالي 300 مليار دولار، والمثير أن الرئيس بيل كلينتون نجح في تحويل هذا العجز إلي فائض بنفس القيمة، وكان يمكن زيادة الفائض لو تم الحفاظ علي مستوي الضرائب المحصلة أيام كلينتون، ولكن الرئيس جورج بوش «الابن» اتخذ طريقا آخر لتلبية مصالح الشركات ورجال الأعمال والأفراد فخفض الضرائب ومع زيادة الإنفاق الحكومي علاوة علي الدخول في سلسلة من الحروب وجري تمويل ذلك كله عبر الاقتراض. ومع إصرار الرئيس أوباما علي تنفيذ برنامج طموح جري عرقلته في عصور الرؤساء السابقين للتأمين الصحي، وزيادة نفقات البرامج الاجتماعية والتعليمية وكذلك استمرار الحروب في العراق وأفغانستان فإن الديون تضاعفت بسرعة مذهلة حتي وصلت إلي 3.14 تريليون دولار وهو الحد الأقصي للدين العام المسموح به دستوريا وفقا لقدرة الاقتصاد الأمريكي علي السداد وبالتالي دخلت أمريكا في هذه الأزمة، خاصة أن خدمة تلك الديون وصلت إلي 414 مليار دولار في نهاية العام الماضي. نهاية عصر المعونات ومع اضطرار أوباما إلي قبول شروط الجمهوريين لتخفيض الإنفاق في الداخل والخارج، فإن الولاياتالمتحدة ستشهد بسرعة نهاية عصر الإنفاق بسخاء في الداخل والخارج علي حد سواء، ولن يكون بوسع أوباما أو غيره أن يتقدم في الحملة الانتخابية القادمة بخطط للإنفاق علي البرامج الصحية والتعليمية ورعاية الفقراء كما يحدث حاليا.. وقد يشهد الاقتصاد الأمريكي أيضا مرحلة من التقشف في ظل انخفاض الإنفاق الحكومي، حيث الحكومة الفيدرالية هي أكبر محرك للأسواق، وسيتم تجميد مشروعات الفضاء العملاقة بعد أن تم إنهاء مشروع «ديسكفري، وإحالته للمعاش»، وستجري أكبر عملية لتقليص المعونات الخارجية مما قد يؤثر علي حليفات الولاياتالمتحدة مثل مصر التي ماتزال تحصل علي 3.1 مليار دولار مساعدات عسكرية وقرابة 400 مليون دولار مساعدات اقتصادية، وقد تتعثر خطة إعفاء مصر من مليار دولار من ديونها للولايات المتحدة. كما سيخسر العالم الوعاء الاستثماري السهل وهي أذون الخزانة الأمريكية، وبالتالي تمت العودة إلي الذهب الذي يشهد ارتفاعات مذهلة تعدت بالأونصة حاجز ألف وخمسمائة دولار، وبالتالي فإن الدولار نفسه سيفقد الكثير من قوته، في ظل ترنح «اليورو» في أوروبا بشدة، وهو ما سيعني أن النظام المالي الرأسمالي العالمي سيدخل إلي أزمة حادة بغض النظر عن كيفية حل الأزمة المالية الأمريكية الحالية، وعلي الدول الفقيرة أن تستعد لدفع نصيب غير عادل من جراء تلك الأزمة في ظل التراجع الشديد في المعونات المقدمة من الولاياتالمتحدة وأوروبا، والارتفاع المستمر في أسعار المواد الغذائية والسلع الرأسمالية، فالعالم الرأسمالي يهتز بشدة وسيجر العالم الثالث إلي السقوط لدفع ثمن أزمة حياة الرفاهية التي تعيشها الدول الرأسمالية الكبري.