في خضم ما يموج به مجتمعنا اليوم من أحداث أقل ما توصف به هي «المأساوية»، وفي ضوء العتمة التي تلتف بها فرمانات، ولا أقول قرارات، المجلس العسكري الحاكم، وفي غمار أمل يائس يلوح في الأفق القريب، لا يملك كل من أدمن التفاؤل إلا أن يتطلع إلي الأفق البعيد، حيث يلوح المستقبل الذي من أجله ثار الثائرون، في محاولة لاقتناص هذا المستقبل والإتيان به إلي الحاضر عله يزيل عن هذا الحاضر بعضا من ظلمته ويحيل الأمل اليائس إلي أمل مملوء بالغبطة والبهجة. يكاد كل ذي عقل راجح يجمع علي أن بناء مستقبل أي مجتمع من المجتمعات إنما يستند إلي دعامة محورية هي العقل، وليس أي عقل، إنما العقل الناقد، المبدع القائم علي المنهج العلمي في الفكر والعمل والساعي دوما نحو تغيير الواقع لكي يلجأ إلي احتياجات الإنسان المتجددة. كما يكاد يجمع أيضا هذا البعض من ذوي العقول الراجحة علي أن بناء هذا العقل يبدأ وينتهي بالتعليم، ولكن ليس أي نوع من التعليم بل التعليم المبدع القائم علي الالتزام بتغيير الواقع وتطويره. والسؤال الذي تردد كثيرا ومازال، قبل وبعد ثورة 25 يناير، هو: كيف يتغير التعليم في مصر؟ الجواب جاء من الشباب الذي فجر ثورة 25 يناير وذلك بالخروج علي النسق الاجتماعي الثقافي الذي نشأ وتربي وتعلم في ظله الآباء والأمهات والأجداد والجدات، ويستند هذا النسق إلي مبدأ ثابت لم يتغير وهو مبدأ التكيف مع الواقع الذي قامت عليه أعمدة النظم التعليمية في العالم أجمع قديما وحديثا. والسؤال هو: كيف اكتشف شباب ثورتنا النسق البديل الذي يقوم علي نقيض مبدأ التكيف مع الواقع، وأعني بذلك مبدأ مجاوزة الواقع من أجل تغييره؟ الجواب سلبا، هو أن الشباب لم يكتشف النسق البديل من خلال نظام التعليم الرسمي الذي تلقاه في المدرسة أو في الجامعة، علي الرغم من تعدد وتنوع مستويات ذلك النظام من تعليم عام إلي خاص إلي دولي، حيث إن هذه المستويات علي تعددها مازالت تقوم علي مبدأ التكيف مع الواقع والمحافظة عليه وليس مجاوزته من أجل تغييره. أما الجواب إيجابا، فهو أن الشباب قد عثر علي ضالته المنشودة من خلال العالم الجديد الذي أفرزته ظاهرة الكوكبية التي أزالت المسافات الزمانية والمكانية والثقافية بين سكان كوكب الأرض وذلك بأن جعلت هذا الكوكب وحدة واحدة متصلة اتصالا عضويا بفضل اختراع الإنترنت «الكل المتشابك» وأدواته المتنوعة من فيس بوك وتويتر وخلافه. أما إبداع الشباب المصري فيكمن في قدرته علي التحكم في تلك الأدوات وتوظيفها في التنظيم والإعداد لثورة شعبية غير مسبوقة في تاريخ هذا الكوكب، فعل الشباب كل ذلك اعتمادا علي قدراته الإبداعية الذاتية والجماعية وبتوجيه من إرادته في الالتزام بحق الشعب المصري في حياة جديدة تقوم علي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وبتحقيق ذلك الحق مهما كلفه ذلك من ثمن، وقد كان له ما أراد. والسؤال المحوري الآن: هل في الإمكان إبداع نسق تعليمي يحاكي النسق الذي أبدعه الشباب المصري من أجل أن يعلم نفسه بنفسه إلي الحد الذي أوصله إلي إشعال الثورة الشعبية المصرية التي يتباهي بها العالم؟ منذ مطلع القرن الواحد والعشرين بزغ جيل جديد نشأ وتربي وتعلم من خلال آلتين إلكترونيتين تحكمنا في تشكيل وعيه ووجدانه، وهما آلة التليفون المحمول وآلة الكمبيوتر، نما وتطور وعي هذا الجيل من خلال انغماسه في عوالم افتراضية من شأنها تلبية احتياجاته من المعرفة من جهة، والعلاقات الإنسانية والاجتماعية من جهة أخري، وقد أفضت هذه العلاقة الوثيقة بين تلك العوالم الافتراضية وجيل نهاية القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين إلي اتساع الفجوة بين هذا الجيل وعالم الواقع التعليمي المدرسي والجامعي، مما خلق حالة من الاغتراب أصابت الطلاب وأحدثت قسمة مرضية بين ما يتلقونه، رغما عنهم، من تعليم رسمي في المدارس والجامعات وما يتعاطونه، بكامل إرادتهم، من تعليم افتراضي. لا حدود للتعليم والسؤال الآن: هل يجدي أي تطوير لنظام التعليم الحالي، العام والجامعي، في إزالة حالة الاغتراب هذه؟ الجواب بالنفي لأن أي محاولة للتطوير محكوم عليها بالفشل لسبب جوهري مردود إلي مبدأ التكيف مع الواقع، وقد قام نادي روما في الثمانينات من القرن العشرين، في إطار مشروع «لا حدود للتعليم»، بالدعوة إلي نظام تعليم يقوم علي مبدأ «التوقع» كبديل لمبدأ «التكيف» في محاولة لبناء جيل من العقول القادرة علي تكوين رؤي مستقبلية تحدث نقلات نوعية في المجتمعات، بيد أن هذه المحاولة الجسورة لم يكتب لها الاكتمال، وفي عام 1986 طرح الفيلسوف المصري مراد وهبة مشروعه عن «الإبداع والتعليم العام»، ولكن هذا المشروع قد تم وأده بواسطة خبراء التربية الذين نصبوا أنفسهم أوصياء علي التعليم في مصر وحراسا لمبدأ التكيف مع الواقع المتخلف، إلي أن انتهينا إلي ما نحن عليه أي إلي مزيد من التخلف. والسؤال الأخير هو: ما العمل وأين العلاج؟ الجواب عند جيل الشباب الذي علم نفسه بنفسه في غيبة تعليم عصري مبدع يلبي احتياجاته الإنسانية المتطورة، هذا الشباب هو الذي ينبغي أن يقود عملية تأسيس النسق التعليمي الإبداعي الذي يبدأ بمرحلة ما قبل المدرسة وينتهي بالتعليم الجامعي. وإذا أردنا أن نطرح برنامجا عمليا لهذا النسق التعليمي فثمة شرط محوري وحاكم وهو «كمبيوتر»، أو «لاب توب»، لكل طالب يكون البديل الصحي للكتاب المدرسي فيختفي الكتاب المدرسي تماما وتختفي معه الدروس الخصوصية، ويترتب علي غياب الكتاب المدرسي اختفاء المنهج الدراسي القائم علي حشو عقل الطالب بمعلومات لا جدوي منها لأن الزمن قد تجاوزها، واستبدال كل ذلك بخطط بحثية قائمة علي قضايا علمية واجتماعية مستقبلية تطرح علي الطالب إشكاليات تتحدي قدراته الإبداعية وتستفز قواه النقدية وتدفعه للبحث عن حلول مبدعة وغير مسبوقة لتلك الإشكاليات التي من شأنها إحداث نقلات نوعية في مجال البحث العلمي من جهة والمجال الاجتماعي من جهة أخري. أما السؤال الحرج هو: هل يختفي المعلم أيضا من تلك المنظومة المفترضة؟ الجواب نعم، يختفي المعلم ويحل محله الباحث الاستشاري لفريق البحث، أي الطلاب الذين يصاحبهم في خططهم البحثية. وماذا عن الامتحانات وما يسمي بالتقويم؟ تختفي أيضا حيث إن التقويم يكمن في مدي قدرة الطالب الباحث علي إيجاد الحلول الإبداعية للإشكاليات التي يطرحها بحيث تنعكس تلك الحلول الإبداعية علي الواقع بما تحدثه فيه من تغييرات عملية تظهر نتائجها في كل مجالات المجتمع، فتدفع به نحو التقدم.