حسين أشرفمن هنا تتضح أهمية الربط بين الحريات السياسية والمدنية التي يمكن أن نضعها تحت العنوان العريض للديمقراطية.. والحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن نضعها تحت العنوان العريض للعدالة الاجتماعية.. ولهذا فإن حزب التجمع لا يفصل بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وليس علي أدني استعداد للتضحية بإحداهما لمصلحة الأخري.. فالديمقراطية والعدالة الاجتماعية توأمان يتنفسان معا. وحينما قامت ثورة 25 يناير حاولت الدوائر اليمينية حصرها في الإصلاح الدستوري ومكافحة الفساد وإنهاء الدولة البوليسية وإقامة الدولة المدنية.. وهي جميعا مطالب عظيمة ومهام جليلة.. ولكن حق يراد به باطل.. لأن الأوضاع الاقتصادية المتردية بفعل الفساد، وبفعل السياسات الاقتصادية المعادية للفقراء والطبقة المتوسطة.. كانت من أهم عوامل اندلاع الثورة.. حيث تسببت هذه السياسات في ارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة وانهيار الخدمات الاجتماعية. واليوم.. تحاول قوي الثورة المضادة أن تعكس اتجاه الريح، علي أمل النجاح في تغيير الدفة.. ومن أهم أدواتها في ذلك إشاعة روح الفزع من الثورة، وأنها قد تسببت في جمود الدم في جميع عروق الاقتصاد.. وتستهدف الثورة المضادة من ذلك إشاعة الخوف من فوضي لن يستطيع زي نظام قادم السيطرة عليها.. وبالتالي يجب أن تتوقف الثورة هنا.. بعد إجراء عمليات تجميل للنظام.. بل حتي الحديث عن المصالحة مع قوي النظام الذي أسقطته الثورة. تعويق الثورة ومما يؤسف له أن بعض القوي الليبرالية التي اشتركت في الثورة أو أيدتها بعدما نجحت.. تحاول الآن بكل قواها منع ثورتنا من أن تتطور لتكتسب أبعادا اجتماعية واقتصادية تتجاوز الفكر والممارسات الرأسمالية التقليدية. وتشترك معها في هذا جماعات الرأسماليين الملتحين التي تعترض بقوة الآن علي استمرار الثورة بعدما ظنت أن مقاليد الأمور قد دانت لها.. ومن ثم تتشوق إلي إجراء انتخابات نيابية متعجلة تكفل لها اقتسام السلطة مع العسكريين وربما الرأسماليين الليبراليين أيضا. ويزداد الخطر مع حقيقة أن الاتجاهات الرأسمالية الليبرالية والملتحية تمتلك أبواقا إعلامية حديثة وذات نفوذ.. الأمر الذي يسمح لها بالصياغة والتأثير في الرأي العام عن طريق الإلحاح وترديد المعلومات الخطأ.. أما بقية من شاركوا في الثورة من شباب وعمال ومثقفين واشتراكيين وديمقراطيين اجتماعيين.. فإنهم لا يمتلكون مثل هذه الأدوات الإعلامية الجبارة.. ولا يبقي أمامهم من سبيل سوي الاعتصام بميدان التحرير كلما شعروا بأن موازين القوة تنقلب ضدهم.. وأهم المغالطات التي تقال في إعلام الثورة المضادة اليوم هي إن الثورة تسببت في وقف الحال وانهيار الاقتصاد.. وهي مغالطة سافرة لعدة أسباب من أهمها: أولا: أن أزمة الاقتصاد المصري منذ 1974 هي أزمة هيكلية مستمرة وليست أزمة استحدثتها الثورة.. فسياسة الانفتاح الاقتصادي أدت إلي نمو قطاع الخدمات والتجارة علي حساب الصناعة والزراعة.. وبالتالي تدمير قاعدة الإنتاج المادي التي يمكن أن تخلق فرص العمل المناسبة لحجم القوة البشرية في سن العمل. ثانيا: أدت هذه السياسات نفسها إلي اعتماد الاقتصاد المصري وإيرادات الدولة علي المصادر الريعية وغير المستقرة مثل قناة السويس والسياحة وتحويلات العمالة بالخارج والغاز الطبيعي.. وهو ما جعل الاقتصاد قابلا للدخول في أزمات عنيفة بمجرد تعرض أي من تلك المصادر لأي هزة. ثالثا: بالتأكيد لم يكن الاقتصاد المصري في أزهي حالاته خلال السنوات السابقة علي الثورة.. والدليل علي ذلك تلك الاحتجاجات الاجتماعية اليومية في مواقع العمل وأمام البرلمان ومجلس الوزراء.. فقد كان المسئولون يتباهون بتحقيق معدلات نمو تقارب 8% ولكنهم لم يهتموا بالسؤال عن مدي وصول ثمار هذا النمو المزعوم للفئات العاملة والفقيرة وحتي المتوسطة. رابعا: لا يمكن اتهام الثوار بأنهم السبب في تهريب المسئولين والفاسدين لكميات كبيرة من الأموال إلي الخارج.. كما لا يمكن اتهامهم بأنهم السبب في إحجام المستثمرين الأجانب والمحليين عن الدخول في مشروعات جديدة.. كما لا يمكن اتهامهم بأنهم السبب في الضغوط التي تمارسها دول الخليج مثلا من أجل تحقيق مطالب سياسية معينة مثل الحفاظ علي رءوس رموز النظام السابق. الإجرام خامسا: صحيح أن أي ثورة تؤدي إلي مشاكل في انتظام دولاب الإنتاج.. نتيجة غياب الاستقرار السياسي والأمني.. كزيادة ساعات حظر التجول ونقص حماية المخازن ونقل المنتجات وإغلاق المصارف والبورصة لفترة.. ولكن الغريب أن الحديث عن الخسائر الاقتصادية تزايد الآن في وقت بدأت الشرطة تعود والمصارف تعمل وحتي الإضرابات بدأت تخف حدتها.. ودعونا نضرب أمثلة علي سوء الأداء الاقتصادي قبل الثورة.. وهو الذي يصل إلي حد الإجرام بكل معني الكلمة. - بفضل حكومات رجال الأعمال ورجال الحزب الفاسدين، أصبح كل مواطن مصري مدينا للخارج بحوالي 2600 جنيه. - بلغ العجز في الميزان التجاري «بين الواردات والصادرات» 1.25 مليار دولار عام 2009، وعجز الميزان الجاري 3.4 مليار دولار. - بيعت أهم وحدات القطاع العام في مجالات الإنتاج والتجارة بأسعار بخسة «انظروا صفقتي بنك الإسكندرية وعمر أفندي كمثال».. ودون التزام المشترين بأي شروط تتعلق بالإنتاج أو السوق أو العمالة.. وجرت هذه الصفقات في سرية تقترب من أساليب اللصوص. - بلغت البطالة السافرة «غير المقنعة» 4 ملايين من قوة العمل «وخاصة وسط خريجي الجامعات والدبلومات المتوسطة» بنسبة 2.15% وفق ما يستخلص من تقرير التنمية في العالم للبنك الدولي عام 2010.. يضاف إلي هذا أن 53% من العاملين ليسوا مؤمن عليهم.. فضلا عن انتشار العمالة المؤقتة والفصل التعسفي وخفض الأجور بشكل متواصل. - بلغ الاستيلاء علي المال العام والرشاوي والثراء غير المشروع مستويات أزكمت الأنوف.. ولن أطيل في هذا الجانب. - وفي نفس الوقت الذي كان يتم التضييق علي المواطنين في الحصول علي القروض، فتحت أبواب البنوك علي مصراعيها لرجال الأعمال المتحالفين مع السلطة، حتي بلغت الديون المعدومة والمشكوك في تحصيلها في موازنات البنوك قرابة 80 مليار جنيه عام 2010، أضف إلي هذا التراخي والفساد في الجهاز الضريبي.. والذي تسبب في وجود عشرات المليارات من الضرائب المتأخرة علي كبار الرأسماليين.. بينما المواطنون تنتزع منهم الضرائب غير المباشرة عُنوة كجزء من سعر السلعة.. ويتم تحصيل الضرائب من العاملين فور صرف رواتبهم. - وهناك الكثير أيضا من الجرائم الاقتصادية الحقيقية مثل بيع الغاز المدعم لإسرائيل، وتدليل احتكارات الحديد والأسمنت والاتصالات وغيرها التي تفرض علي السوق المصري أسعارا احتكارية بمعني الكلمة، في عملية زواج سيئة السمعة بين المال والسلطة. - ومقابل هذا أقدمت حكومات مبارك علي خفض الإنفاق علي الصحة إلي 4.1% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 5% في المتوسط العالمي.. والإنفاق علي التعليم إلي 5.3% مقابل 6.4% في المتوسط العالمي... بعد كل هذا يتم توجيه اللوم للشعب المصري لأنه ثار علي تلك الأوضاع والجرائم.. واتهامه بأنه السبب في الكارثة الاقتصادية.. وكأن هذه الكارثة المحققة موجودة قبل الثورة.. بل قامت الثورة عليها.. إنهم يريدون إلصاق كل أدران النظام المخلوع بالشعب المصري.. ويتهمون الاحتجاجات الاجتماعية بأنها السبب في توقف مزعوم لعجلة الإنتاج.. وكأن المطلوب من العاملين الشرفاء والعاطلين وذوي الدخل الثابت والمحدود أن يربطوا حجرا علي بطونهم حتي ينتهي رجال الأعمال والفاسدون من تسوية أوضاعهم وتهريب أموالهم.. ولقد تسببت الثورة المضادة في ازدياد الأمور سوءا، من خلال الإحجام عن الاستثمار، وغلق المنشآت بحجج مختلفة، وكان الأمر الأكثر خطورة هو تهريب الأموال إلي الخارج بكميات مهولة تسببت في انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار.. ومن أغرب الاتهامات الموجهة للثورة تسببها في خسارة حوالي 800 مليون دولار شهريا من إيرادات السياحة.. وكأن الثوار متهمون بالتعرض للسائحين بسوء.. ومن الواجب توجيه الاتهام للفراغ الأمني المقصود، ومؤامرات أمن الدولة المنحل وبقايا الحزب الوطني لإشعال الفتن الطائفية. ومن المتصور أن السياحة يمكن أن تعود إلي سابق عهدها بمجرد استقرار النظام السياسي واستعادة المنظومة الأمنية شبه المضربة عن العمل، ولكن دون عقاب أو حتي عتاب. غير أن المفاجأة بحق كانت ما كشفت عنه أحدث الإحصاءات من أن الصادرات المصرية قد ازدادت بنسبة 4.16% خلال شهري يناير وفبراير 2011 «أي شهري الثورة».. كما ازدادت إيرادات قناة السويس بنسبة 3.12% خلال الشهور الأربعة الأولي من العام الحالي. الطرق القديمة وإذا كانت عودة الأمن في الشارع والمنشآت شرطا ضروريا لعودة الاقتصاد والاستثمارات.. فإنه مما يؤسف له أن الإدارة الحالية للاقتصاد تعالج الأزمة بنفس الطرق القديمة.. فالعجز في الموازنة يتم علاجه بالمزيد من الاستدانة من الخارج ومن المصارف المحلية، أي علاج الداء بمزيد من الداء.. كما يعالج البنك المركزي مشكلة انخفاض سعر الجنيه بالسحب من الاحتياطي القومي بالعملات الأجنبية. ولم يخطر ببال أحد من المسئولين الاهتمام بتحصيل المتأخرات الضريبية، والتشريع الفوري للضرائب التصاعدية، «وفرض ضريبة علي المعاملات المالية» وخفض الإنفاق الحكومي المظهري.. بل لم يخطر في بالهم التصدي الحاسم لمشكلة وجود الآلاف من الصناديق الخاصة التي لا تدخل في الموازنة العامة للدولة.. والتي كانت من أهم مراتع الفساد وشراء الأتباع الموالين.. وهؤلاء أسميهم «بلطجية» المال العام. وهم علي استعداد لارتكاب المجازر دون التنازل عن امتيازاتهم «الحرام». خلاصة الحديث.. إن من حق الشعب المصري أن يدافع عن ثورته، وأن يطورها بإكسابها أبعادا اجتماعية تحارب الاحتكار والفساد، وتضمن العمل والحد الأدني من الدعم والخدمات الاجتماعية، وتسمح بحرية النضال الاقتصادي والنقابي.. ومن واجب من يجلسون علي كراسي الحكم ولو مؤقتا أن يبحثوا عن حلول جذرية لإيقاف النهب والتهريب وتعطيل رجال الأعمال لعمليات الإنتاج. ذلك هو العلاج السريع.. أما العلاج النهائي فيتطلب إعادة النظر في مجمل التركيبة الاقتصادية، وفي علاقات الملكية، وخاصة تشجيع الملكيات والمشاريع الصغيرة والتعاونية. وفي الأول والآخر.. تظل الديمقراطية هي كلمة السر في كل شيء.