أفرز نظام مبارك ظاهرتين لا ثالثة لهما: الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، بيد أن هاتين الظاهرتين لم تنشئا في عهد مبارك ولكن جذورهما تكمن في عهد نظام السادات الذي سمح بظهور وانتشار الرأسمالية الطفيلية باعتبارها النتيجة الحتمية لسياسة الانفتاح الاقتصادي، كما أن السادات هو الذي أبدع سياسة محاربة التيارات اليسارية والناصرية بالأصولية الدينية عندما أنشأ الجماعات الإسلامية في السبعينيات من القرن الماضي، ولكن السادات لم يكتب له أن يحيا لكي يجني ثمرة سياسته وإنما كان ذلك من نصيب حسني مبارك الذي رعي وحفظ هذه السياسة وخلق لها المناخ الملائم لكي تنمو وتتوحش في ظل نظامه الذي دام ثلاثين عاما. كشفت ثورة 25 يناير عن هاتين الظاهرتين اللتين تجسدتا في الفساد المالي والسياسي من جهة، وانتشار المجموعات الأصولية الإسلامية المتطرفة، مثل الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد والسلفيين، من جهة أخري، وانتشار جماعات البلطجة من جهة ثالثة، كما كشفت الثورة أيضا عن تغلغل التيارات الدينية المتشددة في أوساط الجماهير وذلك من خلال الفرض الجبري والإرهاب الفكري كما تجلي ذلك أثناء الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. وقد يتساءل البعض: كيف تخضع الجماهير لسطوة التيار السلفي المتشدد الذي يدعو إلي قبول الوضع القائم ويكفر الخروج علي الحاكم بعد أن خرجت نفس هذه الجماهير في 25 يناير داعمة للثورة ومؤيدة لإسقاط النظام؟ ثورة مضادة البعض فسر هذا التناقض بالثورة المضادة، ولكن هذه الإجابة لا تفسر التناقض ولكنها تؤكده، إذ يظل السؤال قائما: ما الذي يدعو الجماهير إلي الاستجابة للثورة المضادة؟ وثمة سؤال آخر: هل نفسر هذا التناقض علي أنه ارتداد للثورة؟ وهل هذا الارتداد ذو طبيعة سلبية بمعني أنه تمهيد لفشل الثورة، أم ذو طبيعة إيجابية بمعني أن هذا الارتداد هو الخطوة للخلف استعدادا لقفزة للأمام؟ في تقديري، أن السؤالين يشيران إلي غياب عامل مهم جدا عن ثورة 25 يناير، وأعني بذلك العامل الرؤية المستقبلية التي تدفع بالثورة إلي الأمام، وقد تمثل هذا الغياب للرؤية المستقبلية في أول شعار رفعته الثورة وهو «الشعب يريد إسقاط النظام» حيث إن هذا الشعار قد حدد الثورة زمانيا في الوضع الراهن، أي في اللحظة الآنية ونتج عن هذا التحديد في الزمان أن ارتبطت الثورة ارتباطا وثيقا بمطالب محددة ارتأي الثوار أنها تمثل جوهر ثورتهم علي النظام وأن تحقيق هذه المطالب من شأنه إسقاط النظام، وقد يترتب علي ذلك أن تتحول الثورة من حركة نحو التغيير الجذري للمجتمع إلي مجرد حركة احتجاجية تسعي نحو الإصلاح الجزئي اعتقادا من الثوار أن هذا الإصلاح الجزئي من شأنه في نهاية المطاف إسقاط النظام برمته. والسؤال الآن.. إذا اعتبرنا أن هذا التحول مرحلة ضرورية من مراحل الثورة في مسارها نحو تحقيق التحول الديمقراطي للمجتمع المصري، فما احتمالات نجاح أو فشل التحول الديمقراطي المنشود؟ أو بعبارة أخري، ماذا بعد إسقاط النظام؟ الجواب عن هذا السؤال يشترط تحديد معني الديمقراطية المنشودة، هل هي ديمقراطية صناديق الاقتراع علي النمط الذي كان سائدا في النظام السابق مع بعض التعديلات التي تضمن صحة و«نزاهة» نتائج ما تتضمنه تلك الصناديق من أصوات؟ أم المقصود بالديمقراطية هو تحول المجتمع المصري من ثقافة السمع والطاعة، التي أفرزت النظام الديكتاتوري الفرعوني، إلي ثقافة التنوير التي تضمن تحرير الجماهير من أي سلطة ما عدا سلطة العقل الناقد بما يعني تحررهم من سطوة الأوصياء الذين يصوغون عقول المصريين ويتحكمون في نتائج الصناديق؟ بوصلة للمستقبل قد يتصور البعض أن الحديث الآن عن رؤية مستقبلية ومطالبة الثوار بالانشغال بتنوير الجماهير ليس من أولويات المرحلة الراهنة، حيث إن مطالب الثورة لم تتحقق بعد وحيث يموج الموقف السياسي بصراعات عديدة مما قد يهدد استمرار الثورة. بيد أن هذا التصور مناقض للروح الثورية التي تنشد التغيير الجذري للنسقين الاجتماعي والسياسي برمتهما، مما يستلزم رؤية مغايرة ومفارقة يتأسس عليها البناء الاجتماعي والسياسي المنشود، كما يشترط أن تكون هذه الرؤية المغايرة والمفارقة للنسق القديم هي البوصلة التي توجه عملية الهدم والتدمير للنظام السابق، ومن دون تلك البوصلة، أي من دون تلك الرؤية المستقبلية، فإنه من المحتم أن تتقلص الثورة وتقف محلك سر عند مرحلة الهدم والتدمير. وحتي لا يحدث ذلك، علي الثوار الانشغال فورا بصياغة رؤية مستقبلية من أجل تأسيس النظام الجديد الذي من المتوقع أن تتحدد معالمه السياسية والاجتماعية في المرحلة الوجيزة المقبلة خلال الخمسة أشهر القادمة التي تسبق الانتخابات النيابية والرئاسية، وفي تقديري أن شباب الثورة يملكون من قدرة العقل وقوة المعرفة ما يؤهلهم لصياغة تلك الرؤية المستقبلية، كما أنهم يمتلكون، بفعل طاقتهم الثورية الضاغطة، سلطة اتخاذ القرار بالمشاركة مع مجلس الوزراء من جهة والمجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي يتولي مسئولية رئاسة البلاد من جهة أخري، فشباب الثورة، إذن، يمتلكون القوة الفكرية والقدرة علي اتخاذ القرار، وما يتبقي هو صياغة الرؤية المستقبلية والبدء في العمل علي بث تلك الرؤية في كل مجالات المجتمع حتي تصل إلي رجل الشارع المنوط به ممارسة أول مراحل الديمقراطية في القريب العاجل وحتي لا تتكرر المشاهد التي شهدناها أثناء الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. والسؤال الآن: ما المقصود بتنوير الجماهير؟ الجواب عن هذا السؤال يبدأ بتحديد معني التنوير. التنوير، في معناه الأصيل، هو مصطلح فلسفي أطلقه الفيلسوف الألماني عمانويل كانط (1724 - 1804) في مقاله الشهير: «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» (1784) يقول كانط في هذا المقال: «التنوير هو خلاص الإنسان من حالة الكسل العقلي التي فرضها علي نفسه، ليس لعلة في عقل هذا الإنسان ولكن بسبب عدم قدرته علي الحسم وعدم جرأته في إعمال عقله دون معونة من الآخرين»، ثم يطلق «كانط» شعار التنوير: «كن جريئا في إعمال عقلك، هذا هو شعار التنوير». ثم يستطرد «كانط» في بيان الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يسعي إلي تنوير نفسه بنفسه والمعوقات التي يواجهها والتي قد تجهض تلك المحاولات، في مقدمة هذه المعوقات يأتي دور من يطلق عليهم «كانط» لفظ «الأوصياء» الذين يفرضون وصايتهم علي عقل الجماهير بدعوي رعاية مصالحهم وتوجيههم نحو ما يدعون أنه الصالح العام، ومن أجل الحفاظ علي تلك الوصاية علي عقل الجماهير، يسعي الأوصياء بشتي الوسائل إلي إيهام الجماهير بأن إعمال العقل دون توجيه من الأوصياء يؤدي بهم إلي الوقوع في أخطاء جسيمة قد تهدد حياتهم بالخطر. وينتج عن ذلك انتشار الفزع في نفس الجماهير من محاولة إعمال العقل بمعزل عن الأوصياء خشية الوقوع وعدم القدرة علي القيام مرة أخري، فيؤثرون السلامة ويركنون إلي الاستسلام العقلي مما يصل بهم إلي حد الكسل العقلي والجبن الأخلاقي. وبذلك تكتمل أركان الوصاية ويضمن الأوصياء الاستقرار والثبات لمجتمع بلا تنوير، ويبدو من مقال «كانط» الذي كتبه منذ نحو مائتي عام عن ضرورة تنوير الجماهير الألمانية، كما لو كان يصف جماهير الشعب المصري اليوم حيث إن المائتي عام التي تفصلنا عن حركة التنوير التي انتشرت في أنحاء أوروبا، وحررت الجماهير من الكسل العقلي ومنحتهم القوة لإعمال عقلهم دون وصاية من أحد، لم تصل إلينا حتي اليوم. التنوير واقعياً والسؤال الآن: ماذا نفعل إذا أردنا حفز الجماهير علي التنوير، بمعني توعية رجل الشارع بقدرته الكامنة علي إعمال عقله بذاته ودون معونة من الأوصياء، وإقناعه بأن هذا الإعمال للعقل، بحرية واستقلال، سيحقق نتائج إيجابية تنعكس علي أحواله المعيشية من عمل ومأكل ومسكن وصحة وتعليم.. إلخ. أولا: علينا أن نكتشف لغة مشتركة نتواصل بها مع رجل الشارع، ثانيا: تحديد المفاهيم الأساسية المرتبطة بالتنوير وتبسيطها من خلال اللغة المشتركة، ثالثا: ربط المفاهيم بالإشكاليات الاجتماعية التي تهم رجل الشارع والمطلوب إعمال عقله فيها من أجل الوصول إلي حلول لتلك الإشكاليات بمنطق التنوير، رابعا: ربط كل ذلك بالقضايا السياسية التي تواجه المجتمع المصري في المرحلة الراهنة للتحول الديمقراطي، وخاصة في الخمسة أشهر القادمة التي ستشهد الانتخابات النيابية والرئاسية حتي يتمكن المواطن المصري من اختيار من سينوب عنه في حكم البلاد اختيارا عقلانيا متنورا. بيد أن مسئولية الثوار لن تتوقف عند تلك المرحلة بل إنها ستبدأ فور الانتهاء من تلك المرحلة عندما يبدأ النظام الجديد في حكم البلاد. عندئذ ستكون مسئولية الثوار وضع حجر الأساس للثقافة الجديدة التي سيتأسس عليها النظام الاجتماعي والسياسي الجديد، وأعني بذلك الأساس ثقافة التنوير التي لابد وأن تكون هي الدستور الحاكم للسياسة التي تحكم ثلاثة مجالات تتجسد في ثلاث وزارات: التعليم والثقافة والإعلام.