قاتل معظم سنوات عمره من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية رفض أن يكون جسراً يعبر فوقه حسني مبارك بالتزوير إلي مقعد الرئاسة ثورة يناير 2011م هي ذروة أخري من ذري نضال الشعب المصري في بحثه الطويل والمضني عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية فعلي مدار ما يقرب من ستين سنة، دفع هذا الشعب الصابر المثابر الدم ولقمة العيش دفاعا عن حقه في حياة حرة وكريمة، وعن حقه في اختيار من يحكمه بعيدا عن تزوير وتزييف إرادته، وعن حقه في وطن ناهض وقوي يحتل مكانته اللائقة تحت الشمس وسط الأمم المتقدمة التي لم يكن التاريخ قد سمع بها في حين كان الشعب المصري صنوا ورفيق درب للتاريخ من بداياته وإلي اليوم. خالد محيي الدين ابن كفر شكر، والمولود في عام 1923م كانت له مساهماته الفذة في نضال الشعب المصري منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وإلي أن لعب الزمن لعبته، وأصبح شيخا متوقد الذهن إلي اليوم، وإن كان الجسد غير ذلك. خالد محيي الدين الذي قضي السنوات الأولي من عمره في بيت جده لأمه وسط شيوخ الطريقة النقشبندية، إذ كان جده الأكبر هو الشيخ محمد عاشق شيخ الطريقة وقبره وسط تكيته، تشبع خالد محيي بهدوء وصوفية شيوخ هذه الطريقة وحبهم للناس وتفانيهم في خدمتهم. كان خالد ابن أسرة ميسورة بل ثرية، فقد كان جده لوالده تاجر قطن حقق الكثير من الأرباح، واشتري مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وملأها بأشجار الفاكهة مما كان يدر عليهم دخلا كبيرا ويتيح لهم حياة رغدة، ولكن الرجل الذي تخرج في الكلية الحربية في العشرين من عمره اختار الانحياز لوطنه، فشارك في كل الانتفاضات التي شهدتها مصر منذ بداية الثلاثينيات إلي أن تكلل ذلك بثورة عام 1952م التي فجرها الجيش وانحاز لها الشعب المصري. ولم يكن خالد، بالرغم من أنه كان «يوزباشي» أي برتبة نقيب في الصفوف الخلفية من الضباط الأحرار، وإنما كان واحدا من الضباط الستة الذين أسسوا الحركة وعضوا في مجلس القيادة الذي ضم ثمانية ضباط، وكانت له مواقفه الصائبة وآراؤه الصريحة والواضحة، ومن أمثلة هذه المواقف رفضه اقتراح جمال عبدالناصر بالقيام بسلسلة اغتيالات تستهدف هز أركان النظام الملكي بعد حل مجلس إدارة نادي الضباط بعد أن فازت بها لائحة الضباط الأحرار وعلي رأسها محمد نجيب، ورأي خالد محيي الدين أن حملة الاغتيالات ستفتح أبواب جهنم أمام العنف المتبادل وستضعف حركة الجيش وتمنعه من القيام بخطته، وقد وافقه علي ذلك جمال عبدالناصر عندما التقيا في اليوم التالي. كما رفض خالد محيي إعدام العاملين خميس والبقري ورفض محاكمة مصطفي النحاس في حين أيد محمد نجيب عملية الإعدام، وقبلها كان قد رفض إعدام عدلي لملوم. الديمقراطية والحياة النيابية من أهم المواقف المؤثرة علي حياة خالد محيي موقفه من قضية الديمقراطية ووضع حد لحكم الجيش وعودة الحياة النيابية التي كانت مصر قد عرفتها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي أزمة مارس 1954م الشهيرة والتي كانت في جوهرها صراعا بين اتجاهين قبل أن تكون صراعا بين شخصين، قال عبدالناصر في اجتماع لقيادة الثورة «يا جماعة بصراحة كده مفيش حد مقتنع بعودة الحياة الديمقراطية والحياة النيابية إلا خالد.. إذن يبقي هو ونحن نستقيل ليحقق هو الأهداف التي نادي بها». إن ما قاله عبدالناصر هو بالفعل «نيشان» علي صدر خالد محيي الدين الذي لو وافق زملاءه الرأي أو نافق عبدالناصر وقتها لظل في الصف الأول زمنا أطول وحظي بالأضواء والنياشين، ولكنه أصر علي عودة الحياة النيابية مما جعل عبداللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين يثنيان عليه ويقولان إنه كان واضحا في أفكاره ومبادئه منذ البداية ولم يخف شيئا عن زملائه. دفع خالد محيي الدين ضريبة الموقف المبدئي حيث اعتبر عبدالناصر استقالته مقبولة بالرغم من أنه لم يكن قد تقدم بها بعد، وطلب منه السفر إلي الخارج لفترة. وحين تكلم ولأنه خالد محيي الدين، لم يشعر بضغينة أو حقد تجاه أحد ممن أبعدوه، وتحمل قساوة ومعاناة الغربة بصبر وأناة، واستمر ميزانه العادل في تقييم الأحداث والأشخاص منهجه. فعلي سبيل المثال قال في كتابه الرائع «.. والآن أتكلم» عن جمال عبدالناصر أنه شخصية قيادية تتسم ببعد النظر ويجري حساباته قبل الإقدام علي أي خطوة ويستمع بشكل جيد ولا يتخذ قرارا إلا بناء علي معلومات ومنحاز إلي الفقراء بصدق. أما عبدالحكيم فقد رآه طيب القلب، محبا للناس ومتباسطا معهم، إنه العمدة. وامتدح في صلاح سالم ذكاءه الفطري المتقد وعاطفته التي كانت تنقله من النقيض إلي النقيض، في حين كان شقيقه جمال سالم - حسب رأي خالد محيي الدين - حادا كالسيف ونشيطا وفاعلا. زكريا محيي الدين، ابن عمه، مرتب وهادئ ومنظم في حياته وعمله ونزيه لا يجامل أحدا، أما عبداللطيف البغدادي فهو العقلية السياسية التي تملك رؤية واضحة، وكمال الدين حسين كتلة من الإخلاص للوطن وللإسلام، وحسين الشافعي الرجل صاحب الخلق القويم والسادات صاحب المقدرة علي التوجه إلي الجماهير والاصطفاف بجانب مركز القوة. لماذا هو وحده؟ لا أعرف من قيادة مجلس الثورة من لم يحصل علي قلادة النيل غير خالد محيي الدين، ولكنني أعرف أنه كان قاب قوسين أو أدني من الحصول عليها إن وافق علي الترشح للانتخابات الرئاسية التعددية في 2005م، ولأن خالد محيي ليس رجل الألاعيب السياسية، ولا يضيره أن يبقي الوسام أو الوشاح بكل تبعاته ومكاسبه محرما عليه، فقد رفض أن يكون الجسر الذي يعبر فوقه الرئيس المخلوع لاكتساب شرعية زائفة لا تعبر عن توجهات الشعب المصري. والآن وبعد أن انكشفت كل فضائح النظام السابق وتعرت كل ألاعيبه، وبدأت مصر - بفضل ثورتها - تصحح الكثير من أخطاء المرحلة السابقة التي امتدت ثلاثين سنة، فإن الباب مفتوح أمام المجلس العسكري الأعلي للقوات المسلحة والمشير طنطاوي وشباب وشيوخ الثورة لتصحيح خطأ بحق رجل عاش عمره كله مدافعا عن أمته وعن حقها في الديمقراطية والحياة البرلمانية.. فهل يفعلها المجلس ليكتسب المزيد من التقدير والاحترام كما فعلها مع الفريق الشاذلي رحمه الله. ملاحظة.. لست من كفر شكر ولم ألتق خالد محيي سوي مرة واحدة لإجراء حوار صحفي علي أرض دولة الكويت ولست عضوا في حزب التجمع الذي أحترمه وأقدره.