رسائل الحب والحرية مشهد فاتن افتتح به داوود عبد السيد فيلمه «رسائل البحر» امواج متلاطمة تعلو وتهبط، وتتداخل وتتقاطع ، وتصفر وتزأر ثم تصفو، تماما كالحياة.. حياة يحيي ونورا وآدم وكلارا وفرنشيسكا ابطال الفيلم، وحياة الاسكندرية .. تلك المدينة التي كانت قبلة الحرية والتجانس والتآلف والتسامح والتنوع والاختلاف، والتي باتت شأنها شأن ابطال الفيلم ضحية التحولات المتلاحقة، التي دهورت الطبقة الوسطي، وأزاحتها الي القاع الاجتماعي، لصالح فئات طفيلية ، بلا حس ولا ذوق ولا ضمير، ولا انتماء لها الا لتكديس الثروات واشاعة القبح والخراب أينما حلت. منذ اللقطة الاولي وحتي المشهد الاخير، يكشف فيلم «رسائل البحر» عن تميز شديد الوضوح لعناصره الفنية، وعن تكاملها مع بعضها البعض، الاضاءة الخافتة، والظلال التي تتماوج معها، والتي تغري بالهمس والفضفضة والبوح، لشخصيات قلقة ، تبحث عن توازن نفسي ، وتواصل إنساني عصي علي التحقق، حيث لحظات الفرح والبهجة والسعادة، ما تكاد تكتمل حتي تفر من بين ايديها، ولانها شخصيات حية صادقة، لا تكف أبدا عن البحث عنها. الصورة في هذا الفيلم تبدو لوحات فنية منفصلة، تفسر الحدث والشخصية في أحيان كثيرة ربما أكثر مما تفعل الكلمة، ولهذا فإن مدير التصوير احمد المرسي، هو بطل رئيسي من أبطال الفيلم الذي يعد التعاون الاول بينه وبين سينما داوود عبد السيد. كما لعبت المونتيرة الشابة الموهوبة مني ربيع دورا مهما في التوازن الذي ميز الايقاع المتسارع لأحداث الفيلم الذي يعد تجربتها الثانية مع داوود عبد السيد، بعد تعاونها معه في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي». اكملت موسيقي راجح داوود هذا المثلث الفني البديع، بنعومتها وحساسيتها البالغة، التي دفعت المشاهد ، لأن يتوحد مع بطل الفيلم المفتون بمحبة الموسيقي، والمسحور بنغمات البيانو التي تتحرر بها صديقته «نورا» من ضغوط علاقة زوجية نفعية تفتقد المودة والاحترام، والذي زاد من سحرها وغموضها، عدم معرفته بشخصية العازفة حتي نهاية الفيلم، وقد اضفت موسيقي راجح داوود علي أحداث الفيلم نعومة تفوق نعومتها، ولعل ذلك يبدو متوقعا، بعد أن ألف راجح عالم داوود عبد السيد الذي عايشه منذ عمل معه في فيلم الصعاليك، وحتي كون معه ثنائيا بعد ذلك في معظم افلامه. اعتاد داوود عبد السيد ان يخرج من الممثل ، ما لا يتوقعه المشاهد، فشعبان عبدالرحيم لا بديل له في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي»، ومحمود عبدالعزيز لا مثيل له في دور الشيخ حسني في رائعة ابراهيم اصلان «الكيت كات»، ولا أحد كان يتصور النجاح الهائل لفاتن حمامة في فيلم "ارض الاحلام"وهكذا هي الحال مع فيلم رسائل البحر. بدت المخرجة التسجيلية «نبيهة لطفي» غاية في اللطف والعفوية والتلقائية وهي تؤدي دور فرانشيسكا المهاجرة الايطالية، برغم أن ذلك أول أدوارها السينمائية، وكذلك الحال لدور ابنتها كلارا الذي جسدته باتقان ومهارة موهبة جديدة هي سامية اسعد، ويبقي من المؤكد ان الفيلم قد اعاد اكتشاف قدرات تمثيلية فذة للفنان محمد لطفي بلطجي البار، الذي تحرر من الخوف والقيود واستعاد إنسانيته بنبذه العنف واضفاء محبته علي صديقته مي كساب وزميلاتها اللاتي يعملن معه. أدت بسمة دور نورا ببساطة ودون عناء ، واستطاعت ان توظف لمحات وجهها المعبرة عن القلق والخوف والتستر واللهفة للحظة حب صادقة ببراعة، تؤكد أن الفيلم يعيد اكتشاف مواهبها الحقيقية، بما يعد انطلاقة جديدة لعملها. اما الفنان آسر ياسين فقد كان حقا مذهلا الي الحد الذي اقنع مشاهديه بأن تعثره في النطق هو حقيقة وليس ضربا من الخيال، فكانت قوة التداعي الحر لبراءته و مكابدته للتعبير عن النفس، ومن اجل توقه للتواصل الانساني وللحب وللحرية دفقة مكثفة من الاداء الفني الراقي الذي يشي بمولد نجم كبير ينتظره مستقبل السينما المصرية، الذي يعد فيلم رسائل البحر أحد أعمدته الرئيسية.