ثمة نوع من الأفلام السينمائية، يستحق أكثر من مشاهدة، بل إن مشاهدته لمرة واحدة فقط تظلمه، لأنها لن تمكن المتلقي من اكتشاف كل جمالياته الفنية. ويعتبر فيلم "رسائل البحر" واحدًا ضمن هذه الأفلام، المحملة بالرسائل الصغيرة التي يتلقاها المشاهد، مثل: "وشوشة ودع البحر". الفيلم من تأليف وإخراج داود عبد السيد، وقد حاز علي إعجاب النقاد الذين رأوا فيه دعوة للسلام والتسامح مع الآخر، رغم الاختلاف الديني أو العقائدي، كما قدم الفيلم عرضاً لحالة الضياع الإنساني الذي تعيشه الطبقة المتوسطة في مصر.. لكن الأهم من هذا هو الجو الفني غير المتكلف الذي يخيم علي مشاهد الفيلم، وإذا كان ثمة مبالغات قليلة فإنها تأتي بشكل لطيف جدا وفي السياق الدرامي العام، لشخصيات محملة بالشجن والانكسارات النفسية، شخصيات من الممكن أن نصادفها في حياتنا اليومية، لكن ينبغي أن ننصت جيدا لنستمع لحكاياها. تبدأ حكاية فيلم "رسائل البحر" مع يحيي (آسر ياسين)، وهو طبيب شاب تخرج في كلية الطب، ولكنه يعاني اضطرابات في طريقة نطق الكلام، ويتعرض بسبب ذلك للسخرية من أصدقائه وزملائه، فيترك الطب ويقرر العمل صيادا، فيلتقي أكثر من شخص، وكل منهم له قصة مختلفة عن الآخر .. يمتلك يحيي رؤية مختلفة للحياة، الموسيقي، المال، الحب.. فهو مثلا يرفض أن يمتلك في بيته "جهازًا" لسماع الموسيقي، ويري أننا نبتذل الموسيقي حين نسمعها بسهولة داخل منازلنا، الموسيقي شيء عظيم يجب أن نسعي له، وأن نقوم بجهد كي نسمعها، لا أن تتوفر لنا في كل الأوقات. هكذا أيضاً تبدو علاقة يحيي مع المال، فهو يرفض الحياة في إحدي الفيلات الواسعة في القاهرة بعد وفاة والديه وسفر أخيه الوحيد، ويعود إلي بيتهم القديم في الإسكندرية، وحين يأتي مالك البيت القديم ليحاول إخراج السكان من المبني، يرفض يحيي رفضا تاما القبول بالعرض المالي السخي الذي يعرضه عليه المالك. أما العلاقة التي تقوم بين يحيي ونورا (الفنانة بسمة)، فهي علاقة مركبة ونقية في آن واحد، تمكن المخرج من رسم تفاصيلها بحنكة مدهشة. لعل أجمل ما في "رسائل البحر" أنه يختلف في بنائه الدرامي عن كل القوالب السينمائية المتعارف عليها، فلا نجد في بدايته الاتكال علي أحداث مفاجئة عند المشاهد الأولي، والتي غالباً ما تكون جريمة قتل، أو مطاردة سيارات، وغيرها من التفاصيل التي يستعين بها المخرجون لتشد المشاهد منذ أول دقيقة في الفيلم . كما لا نجد شعارات كبيرة يرفعها البطل، قبل أن تحدث المواجهة التي يعاني فيها وينهزم، ثم ينهض من جديد، ليقف علي قدميه وينتصر، أو علي الأقل يحل العقدة التي قامت عليها الحبكة. ويعتبر المشهد الأخير في "رسائل البحر" من أروع مشاهد الفيلم، إنه يتوازي مع مشهد الموسيقي في البداية، فالمشهد الأخير يصور آسر ياسين وبسمة في قارب صغير، يبحران عبر البحر، وحولهما السمك الذي تم تفجيره بالديناميت .. نهاية رمزية مفجعة قليلا، لكن تخف وطئة فجيعتها في وجود البطلين معاً، أي اختيارهما المقاومة رغم كل بشاعات الحياة. إن فيلم "رسائل البحر" كله عبارة عن عقدة كبيرة، لا تعرف من أين بدأت ولا كيف ستنتهي!.. إنها متاهة لذيذة يستمتع المشاهد خلال تجواله عبرها، فلا يرغب بالخروج.