"ينبغي النظر بعين الاعتبار إلي البلابل التي تواصل الغناء، والنظر بعين الاعتبار إلي البلابل التي تكف عن الغناء، فهذه وتلك حالتان تعيستان من كل الوجوه". هكذا يكتب الشاعر والروائي الجزائري مالك حداد (5 يوليو 1927 - 2 يونيو 1987) في روايته "رصيف الأزهار لم يعد يجيب" (التي صدرت في ترجمة عربية بعنوان "ليس في رصيف الأزهار من يجيب") ملخصاً مأساة خالد بن طوبال، الشخصية المحورية في الرواية، والتي تماثل إلي حد بعيد مأساة مالك حداد نفسه. فخالد بن طوبال، الكاتب الذي يري في انتمائه إلي وطنه وفي دفاعه عن حريته "مسألة شرف"، يجد نفسه في نهاية المطاف منفياً في دروب ذلك الوطن الآخر الذي يستعمره وينكر عليه حقه الأولي في أن يتفوه بكلمة "بلادنا"، وعاجزاً عن العودة إلي نبعه الأول وعن التصالح مع ذلك المنفي في الوقت نفسه. وبالمثل، يجد مالك حداد نفسه منفياً في لغة المستعمر التي تحرمه من أن يغني أغاني الرعاة الذين ينتمي إليهم أو حتي أن ينادي أمه، كأي طفل، بلفظة عربية لا عُجمة فيها ولا لكنة. وإذا كان خالد بن طوبال قد اختار أن يضع حداً لمأزق المنفي بإلقاء نفسه بين عارضتي الخط الحديدي لقطار مسرع، فقد اختار مالك حداد أن يواجه منفاه باحتجاج مأساوي، إذ قرر أن يتوقف تماماً عن الكتابة باللغة الفرنسية التي لم يعثر في كلماتها علي صورته الحقة، حتي إن وصفه الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراجون (1897 - 1982) أنه "طائر من طيور الأغصان العالية" في تلك اللغة. وبعد أن نشر مالك حداد مجموعتين شعريتين هما "الشقاء في خطر" (1956)، و"اسمعي وأنا أناديك" (1961)؛ وأربع روايات هي "الانطباع الأخير" (1958)، و"سأهبك غزالة" (1959)، و"التلميذ والدرس" (1960)، و"رصيف الأزهار لم يعد يجيب" (1961)، اختار أن يخلد إلي الصمت الذي أيقن أخيراً أنه أبلغ من أي لغة غريبة، وهو نفسه الصمت الذي أدرك خالد بن طوبال قدسيته وهو يقول: "ينبغي ألا نتكلم أبداً.. يجب أن نصلي دائماً. وينبغي ألا نكتب أبداً، إجلالاً للصمت وتهيباً من الورق الأبيض". مختارات من شعر مالك حداد من قصيدة "لابد أن نقتل الليل" يجب أن نقتلَ الليل.. يجب أن نقتله لتبزغ الحياةُ من ورائه. سنبدعُ تقاويمَ جديدة للزمن. سنصبُّ الحياةَ كلماتٍ في توابيت رفاقنا. سنجفِّفُ دمعنا بأكفان فقيرة. وسنقولُ لأولادنا الذين ذاقوا اليتم ألف مرة: ستنجبون أطفالاً يعرفون آباءهم.. أطفالاً يستطيعون أن يقولوا: وطني هو الإنسان. إنني أحسُّ السجن في قلبي مهما تخطي الحدود إني أتمزق ضجراً.. كلما تذكرتُ أنني بعيدٌ عن الجزائر. في كل الدروب التي تقود إلي النهار أبحث عن اسمي دائماً بين شواهد القبور عجباً .. كيف يفتح الماضي المرعب أبواباً لغد جميل! إنني أحلمُ دائماً بغد كالأساطير. من قصيدة "المسيرة الطويلة" ... ... لكلمة "وطن" لدينا مذاق الأساطير. لقد داعبتْ يدي قلبَ أشجار الزيتون. مقبضُ الفأس هو منطلق ملحمتنا. لقد رأيتُ جدي الذي يحمل اسم "المقراني" يلقي مسبحته جانباً ليتابع بنظراته انطلاق النسور. لكلمة "وطن" لدينا مذاق الغضب. أبي.. يا أبي! لماذا حرمتني تلك الموسيقي المنسوجة من لحمي، ودمي؟ انظر إلي إلي ابنك.. ابنك الذي يلقن أن يقول في لغة غريبة تلك الكلمات الحلوة التي كان يعرفها عندما كان راعياً. "همست الزهرة" همست الزهرة: "إنني أشعرُ بالضيق أعيدوا إلي مروجي" إنها زهرة الحرية. "أنا أشعر بالضجر من البيانو"، قال العندليب، "أعيدوا إلي غابتي فهي الموسيقي كلها". "إنني أشعر بالضيق"، قالت كلمة "أحبك"، "إنني أتململ ضجراً علي الورق أعيدوا إلي القبلات .. فهي رسائلي". "إنني أكادُ اختنق"، قالت الصورة، "أعيدوا إلي البسمة التي كانت تشرقُ بها عيناي". "إنني أتألم أتألم أن أكون مرآةً"، قالت لي الصورة الحية.