مناضلون يساريون يوسف صديق (2) .. «وبعد الثورة بأيام أقام القاضي أحمد فؤاد وكان مسئول قسم الجيش في بيته حفل عشاء محدودا ودعا إليه عددا من قيادة الثورة.. وكمال عبدالحليم، دخل كمال عبدالحليم واحتضنني وقبلني وقال إزيك يا أبوحجاج، والتقطت العينان اليقظتان لعبدالناصر هذه المصافحة، ويومها فقط أدرك جمال أنني شيوعي» يوسف صديق «في حواري معه» 23 يوليو.. كان يوسف صديق قد أصبح قائمقاما وكان أعلي الضباط الأحرار رتبة باستثناء محمد نجيب الذي لم يكن له علاقة مباشرة معهم، كان قائدا للكتيبة الأولي مدافع ماكينة، وصدر الأمر بنقلها من العريش إلي القاهرة، فكانت الفرصة الذهبية للضباط الأحرار. لكن يوسف ما لبث أن سقط مريضا فور وصوله مع طلائع الكتيبة، كان مريضا بصدره وآلام لا تطاق والدم ينزف من فمه، زاره عبدالناصر وعبدالحكيم عامر في بيته يوم 20 يوليو فزعا من حالته وقال جمال: «يا خسارة لن تستطيع أن تشارك معنا» لكنه أصر علي المشاركة فكل أحلامه وأحلام أبيه وخاله وأحلام تنظيمه توشك أن تتحقق، وفي ليلة 23 يوليو حقنه الطبيب ليوقف النزيف وتحرك بقواته ليحقق الحلم، وفيما هم يتحركون قابلهم قائد الفرقة اللواء عبدالرحمن مكي، وهنا أصبح الخطر يهدد كل شيء، فالقائد الأعلي رتبة أمره مطاع، وفجأة أخرج يوسف صديق مسدسه وأشهره في وجه اللواء وقال ببساطة واحترام «سيادة اللواء أنت مقبوض عليك». وقبض عليه، في حواري معه سألته: كيف فعلتها؟ فأجاب لو ترددت دقيقة واحدة كان اللواء سيصدر أمرا وسيطيعه الضباط الصغار أو سيترددون وتفشل الثورة، وفي الطريق ألقت قواته القبض علي جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر بملابسهما المدنية وأخلي سبيلهما ليعودا إلي البيت لارتداء الملابس العسكرية، وفي ذات الحوار سألته: ألم تفكر في أن تستمر في القبض عليهما وتتولي أنت قيادة الثورة؟ فنظر إلي غاضبا وقال «يا رفيق نحن شيوعيون ولسنا أوغادا» ويمضي يوسف صديق في حواره «وعلمت من جمال وعامر أن قادة أركان الجيش مجتمعون في مبني القيادة العامة المجاور وأن أمر الثورة قد كشف وقلت لهما: العجلة دارت خلاص ولا تراجع وإذا كانوا في مبني القيادة فأنا ذاهب إليهم» وذهب وأوقعهم جميعا في المصيدة وقبض عليهم جميعا، وعلي مكتب القائد العام للقوات المسلحة جلس يوسف صديق ليدير عملية الاستيلاء علي السلطة، وبعدها حضر جمال عبدالناصر وببساطة وقف يوسف صديق وأجلسه مكانه. وأتأمل المفارقة، يوسف أنجز جزءا مهما من المهمة، وهو أعلي رتبة من جمال ولكنه وقف وأسلمه زمام القيادة وأسأله كيف فقال: «تعلمت في حدتو أن أحترم المسئول حتي لو كان أصغر سنا أو مكانة وتعلمت أن أحترم العهد وأن أتصرف بأخلاق وأنا لم أكن أسعي إلي سلطة أو منصب فقط كنت أسعي لتحرير شعبي ووطني». لكن التصادم يأتي سريعا فقد طالب يوسف بحكومة ائتلافية مدنية وانتخابات حرة وديمقراطية كاملة ودستور جديد يكفل للمواطنين حقوقهم.. وبعدها يعود الجيش إلي الثكنات، وتهكم عليه واحد من أعضاء مجلس الثورة «وكان جمال قد أبلغهم أن يوسف صديق شيوعي» فقال له: أنت عامللي فيها يوسف ستالين، ولم يجد يوسف أمامه سوي دواية الحبر فقذفها في وجهه.. وبدأ الصدام الحاد. ونحي يوسف صديق من مجلس قيادة الثورة في إطار حملة ضارية قادها الحكم ضد الشيوعيين، وفي أواخر 1953 بدأت الضربات تتوالي، قضايا يقبض فيها علي أعداد كبيرة وغير مسبوقة، واختفي الناجون من أعضاء القيادة، ووجدنا نحن أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين - حدتو - أنفسنا وحدنا وبلا قيادة، لكننا واصلنا عملا نشطا، وذات يوم اتصل بي زميل كان في خلية بحقوق عين شمس ليقول: إنه علي علاقة بيوسف صديق وأنه طلب منه أن يرتب لقاء مع المسئول، وأصابتني حيرة، فنحن لم نجد أي سبيل للاتصال بمسئولين فالجميع مختفون إذ كنا أعضاء في تنظيم مستقل تقريبا هو رابطة الطلبة الشيوعيين، والمسئول عن هذه المجموعة من الطلاب هو أنا، وقلت الحقيقة للزميل فنقلها، ليعود ويقول هو يريد مقابلة مسئول المجموعة الطلابية، وقابلت أنا الطالب في السنة الثانية حقوق، هذا القائد المهيب، وكان مهيبا في الأداء والسمعة والخبرة وأيضا في الشكل، تمشي البطل في الحجرة ذهابا وإيابا، وبدأ الحديث.. عبدالناصر يستعد لتوقيع اتفاقية الجلاء ويود أن يضمن تأييدا من حدتو التي كانت تسعي بنشاط لتكوين الجبهة الوطنية الديمقراطية، أو حتي تهدئة في معارضتها للاتفاقية وكبداية للمصالحة عرض علي يوسف صديق أن يكون سفيرا في الهند ليدرس ما يدعو إليه نهرو من سياسة غامضة اسمها «الحياد الإيجابي» وفيما يغادر يوسف لم ينس عبدالناصر أن يلوح بالعصا الغليظة فقال ليوسف وهو يبتسم وكأنه في حالة هزار «قول لعلية تبطل نشاط وإلا سأعتقلها». استمعت للرواية وزدت حيرة وخوفا أما الإجابة التي قلتها فكأنها كانت رسالة استفزاز، قلت قل لعبدالناصر قادتنا في السجون أفرج عنهم وتشاور معهم، ودارت ماكينة الإرهاب أكثر فأكثر وحددت إقامة يوسف وسجنت زوجته علية، ورد عليهم يوسف بقصيدة يذكرهم فيها بأنهم كانوا في قبضته يوم الثورة وأنه بأخلاقياته أفرج عنهم، أما هم.. وعندما كان عدوان 1956 ترك منزله رغم الإقامة الجبرية ودون إذن من أحد، فالوطن يناديه، وذهب إلي غرفة العمليات واضعا نفسه تحت إمرة من قيدوا حريته. وفي 31 مارس 1975 آن للفارس المهيب والقائد الشجاع أن يرحل، ولكن هل يرحل حقا أمثال يوسف صديق؟