في باريس وفي الخامس من يناير توفي أديب ديمتري المفكر والكاتب المصري عن عمر يناهز 88 عاما، بعد عملية جراحية اضطر اليها بعد صراع طويل مع مرض عضال. وهب أديب ديمتري بولس حياته لقضية التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، مواصلا الإسهام في معركة التنوير ومقاومة سياسات الاستسلام والاستبداد في بلادنا، رغم المرض وأعباء السن. بدأ اديب ديمتري حياته الوظيفية معلما في "المدرسة الخديوية" التي خرجت اجيالا من المثقفين الوطنيين، ثم انتقل للكتابة في مجلتي الكاتب والطليعة المصريتين مؤسسا رؤية تنويرية لسياسات التربية والتعليم في مجتمع طامح للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي. وانشغل بالبحث في ظاهرة الايديولوجيات القومية والدينية في العديد من الحضارات، البحث الذي نشر جزء منه في كتابه "نفي العقل". كما اسهم في السنوات الاخيرة في بحث آثار العولمة الرأسمالية علي نضال الشعوب من اجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. ونشر كتابه المهم ديكتاتورية. انضم اديب ديمتري منذ شبابه الي صفوف اليسار المصري. ورغم تأييده النهج الوطني لجمال عبد الناصر ذهبت به معارضته الجريئة لمظاهر الاستبداد الي السجن ضمن مئات من المثقفين الوطنيين ونشطاء الحركة العمالية. وفي عهد السادات سجن مع المناضل احمد نبيل الهلالي وفوزي حبشي عدة سنوات اخري لمعارضته الانقلاب علي النهج التحرري والتقدمي ولاسهامه في اعادة تأسيس الحزب الشيوعي المصري. في عام 1978 انتقل اديب الي فرنسا للعلاج وبطلب من رفاقه استقر في العاصمة الفرنسية ليسهم في اصدار مجلة اليسار العربي الشهرية مع ميشيل كامل ومحمود امين العالم. وكان له دور بارز في التحرير فغدت اليسار العربي منبرا مهما تعدديا لفصائل حركات التحرر العربي. في السنوات الاخيرة واصل في "القدس العربي" اللندنية نشر تحليلاته النقدية لسياسات الهيمنة الامبريالية وللاوضاع المتدهورة في عالمنا العربي. و انصب مركز اهتمامه علي المتابعة النقدية للتطورات السياسية والمجتمعية في مصر، وعلي نضال الشعب العربي الفلسطيني، داعيا لتوحد الفصائل الفلسطينية ومحذرا من الانقسام، ومن نهج المساومات الفاسدة. آخر مؤلفاته، "ديكتاتورية رأس المال"، خصصها لدراسة الآثار الكارثية للعولمة الرأسمالية وللنضالات الشعبية من اجل الخبز والحرية ومن اجل ديمقراطية حقيقية. تابع أديب ديمتري بشديد القلق تصاعد التوتر الطائفي في مصر، الذي كان يرجعه الي مؤامرة داخلية وخارجية تنذر بكارثة سياسية وثقافية ومجتمعية شاملة تصيب مصر والعرب، وتقوض المقاومة ضد مخططات الامبريالية والصهيونية. ورأي أديب ديمتري في حركات الاجيال الشابة وانشطة المعارضة الوطنية في مصر بارقة أمل، وكان يتتبع الاخبار يوميا عبر الشبكة العالمية بعد ان تعلم استخدام الكومبيوتر وهو في سن الرابعة والثمانين. وكان اسم مصر آخر ما تردد علي لسانه. في مكالماتي الهاتفية الاخيرة مع رفيق النضال اديب ديمتري، وفي ساعاته الاخيرة امام زوجته، ظل يكرر القول: "اريد ان اعيش حتي أري نهاية الكارثة التي تمسك بخناق مصر". نتاج أديب ديمتري الفكري المتواصل لعشرات السنين ما كان متصورا دون محبة وصبر وتضحيات زوجته ايزيس، التي شاركته معاناة الاضطهاد في الوطن ومرارات حياة الهجرة موفرة له فرصة مواصلة التركيز علي البحث والكتابة. في الثاني عشر من يناير سيواري جسده الثري ولكن تراثه الفكري سيظل منارة لأجيال من المصريين والعرب.