كان «نجيب محفوظ» حتي أيامه الأخيرة متابعا جيدا لإبداعات الأجيال الجديدة، وكان دائم السؤال عن الأسماء الجديدة في الساحة الثقافية وتطور فن السرد عموما والرواية والقصة بشكل خاص. «نجيب» الذي تنبأ بزمن الرواية والقصة في مقال نشر في مجلة «الرسالة» في سبتمبر 1945 حيث قال: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد يوفق علي قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلي القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقي من حيث الزمن، ولكن لأنه أرقي من العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة علي هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة». ومن هذا المنطلق تبني «محفوظ» جيلا كاملا من المبدعين وهو جيل الستينيات، إما بالكتابة عنه أو بالنصح والإرشاد، فكان بمثابة الأب الروحي لهذا الجيل الذي ضم كوكبة من المبدعين أمثال جمال الغيطاني ويوسف القعيد وجميل عطية إبراهيم وإبراهيم أصلان ومجيد طوبيا وغيرهم. هذه رسالة بعث بها «نجيب» إلي لجنة التفرغ يزكي فيها الأديب إبراهيم أصلان للحصول علي منحة تفرغ: وهذا نص الرسالة: الأستاذة الفاضلة مديرة إدارة التفرغ تحية طيبة وبعد فأود أن أزكي الأخ إبراهيم أصلان في طلب تفرغه، مؤمنا كل الإيمان بأن تفرغه سيكون لخير الأدب الجديد، وهو فنان نابه، له مؤلفات مطبوعة، ومنشورة في الصحف، تقطع بموهبة جديدة فذة، ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزدهر. فأرجو مخلصا أن ينال حقه، وأن يكرم بما هو أهله وتفضلوا فائق التحية. المخلص نجيب محفوظ 12/9/1971 تعليق: شهادة نجيب هذه لم تأت من فراغ بل هي شهادة قارئ جيد لنصوص هذا الجيل، وشهادة رائي للحالة الاجتماعية القاسية التي كان يعاني منها الأدباء، فقد كان «أصلان» - في تلك الفترة - عاملا للتلغراف ويسكن في شقة بسيطة في «الكيت كات» ويحمل عبء أسرة كبيرة مثله مثل كثيرين من أبناء هذا الجيل. حكاية الأصل والصورة علاقة نجيب محفوظ بالسينما بدأت عام 1952 ككاتب سيناريو بتشجيع من المخرج صلاح أبوسيف وظل يعمل في السيناريو حتي عام 1957، إلا أن أول أعماله الأدبية التي رأت النور علي الشاشة كانت في «بداية ونهاية» عام 1960. ومن الأفلام التجريبية «حكاية الأصل والصورة» اخراج مدكور ثابت وعلي حد تعبير الناقد السينمائي محمود قاسم في كتابه «السينما والأدب في مصر» - مكتبة الأسرة 1999 - فإن هذا الفيلم بمثابة أول عمل تجريبي مأخوذ عن نص أدبي مصري، حيث مزج المخرج فيها بين الشكل المسرحي والشكل السينمائي والقصة تدور حول صورة قتيلة منشورة في صفحة الحوادث بإحدي الجرائد مجهولة الاسم والهوية، وأثناء الأحداث يظهر المخرج بصورته الحقيقية ومعه طاقم الفنيين في الفيلم يراجعون السيناريو ويتابعون قصة هذه الصورة، وقد اعتمد مدكور ثابت في فيلمه علي ما يسميه المسرحيون ب «كسر الإيهام» أي كسر التوقع عند المشاهد، فقد قسم أحداث الفيلم علي عدة أيام تدور بعد اكتشاف الجريمة حيث يأتي عدة أشخاص إلي الضابط المختص بالتحقيق فيها فيعلنون أنهم قتلة هذه السيدة، ولكل واحد منهم دوافعه، فأحدهم كان يسعي إلي الشهرة وأحدهم صاحب المصنع الذي تزوج منها عرفيا وحملت منه وسعت إلي إجهاض نفسها، وأحدهم موظف أرشيف لذته في الحياة مطاردة الخادمات، وهكذا عبر عن أنماط لشخصيات مختلفة نفسيا ووجدانيا، يربطها خيط واحد وهو البحث عن مبرر للخطأ، وأحيانا محاولة الاعتراف به والتكفير عنه. ومن ناحية التقنية السينمائية فقد حاول مدكور ثابت أن يوجد ترابطا بين الأشخاص الذين ارتبطوا بالقتيلة من خلال غطاء سينمائي يقوم علي بناءات جزئية تعتمد علي تفاصيل صغيرة متناثرة، يجمعها في النهاية بعد درامي واحد قائم علي فعل التذكر حيث يحاول كل منهم تذكر علاقته بتلك المرأة ذات الوجوه المختلفة، فهي عاملة المصنع والخادمة والعاهرة، والابنة التي هربت من أبيها وقد أعلن وفاتها علي ما أظن أن «نجيب محفوظ» قد أعجبته هذه التقنية بما فيها من تجريب سينمائي، فأراد أن يكرر هذه التجربة مع «مدكور» من خلال روايته «الكرنك» والتي صدرت عام 1974 عن مكتبة مصر، وهذه الرسالة التي بين أيدينا تدل علي ذلك والتي أرسلها إلي ثابت بتاريخ 23 فبراير 1974: عزيزي الأستاذ مدكور ثابت تحية طيبة وبعد فإنه لما لي فيكم من ثقة تامة بقدرتكم الفنية وإمكاناتكم علي النجاح الجماهيري يسعدني أضع روايتي «الكرنك» - تحت الطبع - وأيا من أعمالي الأخري تحت تصرفك الكامل لاتخاذ ما يلزم من اتفاقيات علي إخراجها. ودمت المخلص نجيب محفوظ 23/5/1974 ومع ذلك فقد وجدنا الرواية - بعد طبعها - قد تحولت إلي فيلم سينمائي من إخراج علي بدرخان، سيناريو وحوار صلاح جاهين وممدوح الليثي، وهو الفيلم الذي تعرض لمجزرة رقابية نتيجة رؤيته الكاشفة والراصدة لتحولات المجتمع المصري في تلك الفترة ونقده الحاد للتجاوزات الأمنية التي طالت الشرفاء من أبناء هذا الوطن.