لم تمر الدبلوماسية السورية (لا بل السياسة السورية) خلال السنوات الخمس الماضية بمشاعر الراحة والسعادة التي تمر بها هذه الأيام، فالوفود الأوروبية تتزاحم علي أبواب سورية، والإدارة الأمريكية استأنفت تواصلها وأخذت وفودها تسرع الخطي نحو دمشق ويرتفع مستوي أعضائها مرة بعد أخري، والعلاقات مع البلدان العربية هادئة لا ينقصها شيء. وتحولت السياسة السورية من موقع المتهم إلي موقع المهاجم الذي يتهم غيره من البلدان الأجنبية والعربية دون أن يخشي ردود فعل سلبية فعالة يمكنها أن تضر بهذه السياسة، ولاتكتم الصحف ووسائل الإعلام السورية رأيها القائل أن سورية هي البلد المحوري الرئيس في المنطقة ومفتاحها، وأن أي حل أو شبه حل أو تهدئة في المنطقة لابد أن يمر في سورية ويحظي برضاها. لم تأت هذه الراحة من فراغ، فبعد أن كانت سورية محط هجوم من الإدارة الأمريكية والبلدان الأوروبية والبلدان العربية، وشبه مقاطعة من هذه الجهات جميعها، انقلب الأمر الآن، وأصبحت العلاقات مع هذه الدول تتطور وتتسع ويبدو أن الثقة بدأت تعود بين سورية وبينها، وهذا ما صرح به كلا الطرفين، وهو ما تعتمد عليه الدبلوماسية السورية ويفاخر به الإعلام السوري منذ عدة أشهر. زار سورية مؤخراً وليم بيرنز وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشئون السياسية علي رأس وفد متعدد المهمات، وقابل الرئيس بشار الأسد ووزير الخارجية السوري وليد المعلم، وأعلنت الإدارة الأمريكية مع بدء الزيارة تعيين سفير جديد لها في سورية بعد أن بقيت بدون سفير خمس سنوات، منذ أن سحبت سفيرها عام 2005، وصرح بيرنز عند انتهاء زيارته بأن الحوار مع الجانب السوري تناول نقاط الاختلاف بين الطرفين، وأنه كان إيجابياً بشكل عام، واستبقي في دمشق مسئولاً أمنياً بحث خلال يومين لاحقين العلاقات الأمنية بين البلدين دون أن يفصح أحد عن فحوي الأمور المبحوثة، ويعتقد بعض المراقبين أن القضايا الأمنية التي تناولتها المحادثات تمحورت حول (مكافحة الإرهاب، وتسرب المسلحين إلي العراق وما أشبه ذلك). ما أن غادر بيرنز حتي حل رئيس الوزراء الفرنسي ضيفاً علي سورية وهي أول زيارة لرئيس وزراء فرنسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ولقي حفاوة بالغة، ووقع عديداً من الاتفاقات في مختلف المجالات، وصرح بعض المسئولين هنا وهناك بأن هذه الزيارة تشكل بداية شراكة حقيقية بين البلدين تمهيداً لبناء علاقات أكثر عمقاً وشمولاً في المستقبل. تواصل .. ولكن ولكن يلاحظ من جهة أخري أنه رغم هذا التواصل الكثيف بين الإدارة الأمريكية وسورية فإن هذه الإدارة لم تتخذ واقعياً أي قرار إيجابي عملي في صالح بناء علاقة جديدة مع سورية باستثناء تسمية السفير، وهذه التسمية هي من طبيعة الأمور، فمن مصلحتها أن يكون لها سفير في دمشق بعد انقطاع خمس سنوات، لكنها في الوقت نفسه لم ترفع العقوبات المفروضة علي سورية من قبلها، ولم تلغ تجميد أموال بعض السوريين ومازالت تعرقل التعاون مع المصرف التجاري السوري، ولم توافق علي تزويد سورية بقطع غيار الطائرات (البوينج والإيرباص)، كما لم تسرب أي تصريح إيجابي تجاه الحماقات الإسرائيلية ضد سورية، أو تنوه بأنها سترعي المفاوضات المحتملة مع إسرائيل، أو تتخذ موقفاً يستفاد منه أنه يوحي بسياسة أمريكية جديدة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي أو علي الأقل تجاه المفاوضات السورية الإسرائيلية. كما يلاحظ أنه رغم الحفاوة الكبيرة بالضيف الفرنسي، وبعض الاحتفاء الإعلامي بها، لم تثمر سوي اتفاقات ثانوية، بعضها ثقافي وبعضها يتعلق بالتعاون الإداري والنقل والبيئة أو ما يشابه ذلك، باستثناء موافقة فرنسا علي بيع سورية طائرتين صغيرتين من صنع (فرنسي إيطالي) تتسع كل منها ل (60) راكباً فقط، اما الشراكة السورية الأوروبية ورفع الحظر عن قطع (الإيرباص) والتعاون الاقتصادي الواسع والشامل، وتغير الموقف الفرنسي من احتلال الجولان أو من تصرفات الحكومة الإسرائيلية العدوانية والعنصرية وما أشبه ذلك، فلم يحدث عليها أي تغيير. وفي الوقت نفسه لم تشهد العلاقات السورية العربية أي تقدم نوعي، فلم يتجاوز حال هذه العلاقات حال الهدنة ربما طويلة الأمد. لهذا كله يري بعض المراقبين أن سعادة الدبلوماسية السورية وفرحتها مبنية علي تفاؤل مبالغ فيه، ومع أنها استطاعت خلال السنتين الماضيتين إيقاف الأعمال الأوروبية والأمريكية العدوانية، وكسرت الحصار الذي كان مفروضاً عليها، إلا أنها لم تتجاوز حتي الآن هذه المرحلة، وبالتالي فمن المبكر الاطمئنان الزائد أو اعتبار أن الأمور عادت إلي مجاريها مع الإدارة الأمريكية وبلدان أوروبا، فما زالت هذه البلدان تطمح بتغييرات جذرية في السياسة السورية الإقليمية.