أعدم سيد قطب سنة 1965 على إثر محاولة الانقلاب على ثورة يوليو 1952.لكن أيديولوجيته الإرهابية الملغومة و المفخخة سرت في نفوس أعوانه المريضة كمسرى النار في الهشيم؛حيث تبنتها جماعة الإخوان المسلمين,و ما ولدته من جماعات أخرى متطرفة؛لتخرج بها من طور التنظير إلى طور الفعل الإرهابي. في هذا الصدد؛قدم الفيلسوف الفرنسي المعاصر"جاستون باشلار"تفسيراً منطقياً مقنعاً لتك الظاهرة؛و ذلك في كتابه"النار_التحليل النفسي لأحلام اليقظة".ألا و هو ما ذهب إليه_في التحليل النفسي للمعرفة_بإمكانية انتقال الأحلام من اللاوعي الفردي إلى الآخرين؛خصوصاً إذا ما كانوا يعانون من العقد النفسية؛و من ثم تتحول إلى ما سماه"باشلار""اللاوعي الجمعي".عندئذ تأخذ تلك"الهلوسات"طريقها إلى الفعل الإرهابي. يتعاظم هذا الفعل الإرهابي أكثر إذا ما ارتبطت أيديولوجيا الإرهاب بقناعات تيولوجية وميتافيزيقية.و في هذه الحالة؛يمكن الحديث عن ما أطلق عليه"باشلار"مصطلح"الشيزوفرانيا الفكرية". اشعال الحرائق يقدم"باشلار"تفسيراً مدهشاً لعشق الإرهابي نزعة إشعال الحرائق؛حيث يقول:"إن هذا النوع من البشر مصابون ب"عقدة أمبيدوقليدس"و مفادها "أن المصاب بهذه النزعة تعبير عن الجنس المقرون بالدين.و هو يعد أكثر المجرمين كتماناً.فالنار بالنسبة له تكمن في نفسه أكثر من كمونها تحت الرماد..و من ثم يتشوق للتدمير الذي يعد بالنسبة له أكثر من مجرد التغيير؛بل هو يشي برغبة في التجديد..إن هذه العقدة لا تعالج بالطب النفسي؛بل بالطب العقلي"..!! و لعل هذا يفسر ما نشاهده من حالة البهجة التي تشمل جموع الإرهابيين فيهللون و يمرحون مرددين عبارة"الله أكبر..الله أكبر"كما لو كانوا يمارسون طقساً دينياً,تتعاظم درجات حدته مع تعاظم انتشار النيران و يتصاعد الدخان إلى عنان السماء؛فيتقافزون و يصفقون و يهللون في إيقاع جماعي موحد؛شأنهم شأن البدائيين الوثنيين في ممارسة طقوس دياناتهم مصطفين في صورة دائرة في وسطتها موقد نار مشعلة..!!.و الأنكى أن هذا الداء ينتشر بين الأميين الجهلة وبين من نالوا أعلى درجات التعليم؛حتى لو كانوا علماء في الكيمياء أو الفيزياء أو نحوهما.فهم يدرسون هذه العلوم لطلابهم في الجامعات و مراكز البحث العلمي المتخصصة؛و مع ذلك يؤمنون_في الوقت ذاته_بالأوهام أو حتى الخرافات و الشعوذات..!!؛هذا على الرغم من كون الإسلام ينطوي على دعوة صادعة لنبذها و تحريمها,و الاحتكام إلى العقل في فهم الطبيعة و النفس و جميع المخلوقات.و لا غرو؛فقد كرم العلماء حين اعتبرهم ورثة الأنبياء. و ها نحن نشاهد_في أيامنا النحسات حالياً_كيف يتخلى أمثال علماء الإخوان عن إلقاء دروسهم العلمية في الجامعات؛ليتفرغوا في توظيف علمهم في صناعة"المفرقعات"و كيفية تفجيرها في حشود الأبرياء ب"الريموت كنترول"..!!.ليس لذلك من تفسير إلا أن الخطاب الإرهابي الإسلاموي يتميز"بطبيعته الدائرية؛ حيث يدور حول نفسه في فلك من الكلمات البراقة المحملة بشحنة ثقيلة من التشبيهات و المجازات التي لا تستند إلى أية حقيقة علمية.و مع ذلك يلقى رواجاً لدى اللاوعي العام". قفز علي الواقع لذلك لم يخطئ الصديق صلاح الدين الجورشي حين حكم بأن سيد قطب نجح في"تحويل المشروع الإسلامي إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار مرات عديدة دون أن تستنفد شحنتها الحارقة".لقد أصبحت"هلوساته"مخزوناً نفسياً يتحرك في باطن جماعته,و ما ولدته من جماعات أخرى أشد راديكالية و عنفاً و إرهاباً و ترويعاً؛لهثاً وراء تحقيق هدف مستحيل قوامه إحياء عهد الرسول(ص)و عصر الخلفاء الراشدين؛دون أدنى فهم لأوليات التاريخ الإسلامي.إنها محاولة قفز على الواقع التاريخي في آن؛بما يفضي حتماً إلى محوهم من الواقع,و دخول ذكراهم في"قمامة"التاريخ. إذ لا مناص من اندلاع نار الفرقة و التشرذم بين تلك الجماعات الإرهابية نفسها؛و يتحول الصراع بينها إلى"حرب مقدسة"تجهز عليها جميعاً؛و ذلك قبل تعرضها لغضبة الشعوب الإسلامية نفسها؛ناهيك عن غير الإسلامية؛خصوصاً بعد أن شهد العالم الإسلامي ميلاد جماعات أخرى أكثر تطرفاً؛فكراً و سلوكاً. ثمة إشكالية تتعلق بالجماعات الإرهابية التي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين يمكن بلورتها في السؤال:هل تنتمي تلك الجماعات تنظيمياً و حركياً إلى جماعة الإخوان الأم؟أم أنها مستقلة بكياناتها؟ السائد بين الباحثين هو الحكم بالاستقلالية.لكننا نشك في ذلك برغم الافتقار إلى"وثائق"تدعم وجهة نظرنا.كمؤرخ؛لا أستطيع الجزم بمعزل عن الوثائق,لكن ثمة من الشواهد و القرائن التي ترجح تصورنا.و قد تعلمنا من دروس التاريخ؛أن المؤرخ بوسعه الوصول إلى الحقيقة؛تعويلاً على التأمل المفضي إلى ما سماه"برتراند رسل"الحدس العلمي؛باعتباره سمة مشتركة لكل الاكتشافات العلمية.و لنا أن نذكر بقول ابن خلدون إن"العالم البصير قسطاس نفسه في الوقوف على الحقائق إذا ما أعيته الحيل".كذا بقول الفيلسوف العقلاني"سبينوزا"بأن العقل وحده بوسعه الكشف عن الزيف؛و إن أخفق في الوصول إلى الحقيقة.بل إن أصحاب المذهب"الفينومينولوجي"_الظاهراتي"يعولون أساساً عل"الشعور"كأداة للمعرفة.باختصار؛نرى أن المؤرخ الفطن عليه أن يقوم بدور أشبه بمن يقدم على حل "الكلمات المتقاطعة"في معرفة الحقائق.و إذا كان بوسعه التنبؤ بصدد المستقبل_نتيجة إحاطته بالماضي و استيعابه واقع الحاضر_فمن الأيسر عليه أن يتعرف على"المستور"بصدد هذا الماضي و ذاك الحاضر.ليس ذلك من قبيل الرجم بالغيب؛بل تأسيساً على الشواهد و القرائن.و في ذلك يقول"أرسطو"أن الحقيقة خلقت لتعرف برغم محاولات إخفائها. الجانب الدعوي تأسيساً على ذلك_و غيره كثير لا يتسع المقال لذكره_نرى أن طبيعة"العمل السري"الذي تتوسل به الجماعات الإسلاموية في إخفاء نشاطاتها و أهدافها لا تحول دون فك طلاسمها و فضح مزاعمها مهما بذلت من جهود و قدمت من ذرائع لإخفاء الحقائق. من الشواهد الدالة على ذلك؛محاولة حسن الهضيبي_المرشد الثاني للإخوان_التبرؤ من التنظيم السري الإرهابي للجماعة,و ادعاء اقتصار نشاطها على الجانب الدعوي ليس إلا.من أجل ذلك ألف كتابه المعروف"دعاة لا قضاة".لكن بعض المنشقين عن الجماعة_فيما بعد_كشفوا عن زيف دعواه,و قيل بصدد ذلك أنه اطلع على كتاب سيد قطب"معالم في الطريق"قبل طباعته,و أثنى عليه و بارك نشره..!!.بل إن المرشد الأول_حسن البنا_الذي تنصل من علاقته بالجهاز السري للجماعة,و اعتبر أعضاءه الذين اغتالوا"النقراشي""ليسوا إخواناً ولا مسلمين"ثبت_فيما بعد_أنه هو الذي أسس الجهاز و وضع خططه و أشرف على نشاطاته. منها أيضاً؛أن التيار القطبي الذي شكل أيديولوجية الجماعة في عهد مرشدها"مصطفى مشهور"كان معظم أعضائه من"أخوة"سيد قطب في السجن الذين استجابوا لأفكاره المتطرفة, ومنهم مرشد الجماعة الحالي,و محمود عزت "مهندس"النشاط الإرهابي آنياً. أما الجماعات الإرهابية الحالية_كالجماعة الدينية و تنظيم الجهاد و جماعة التكفير و الهجرة و غيرها؛ لم يكن مؤسسوها إلا"تلاميذ"لسيد قطب و على صلة سرية وثيقة بالجماعة الأم_بعد إعدامه و إحياء الجماعة في عهد السادات لأسباب معروفة_و إلى الآن. وقد كشفت وثائق الأمن العام_التي تسربت حالياً_عن صلة قائد عملية"الفنية العسكرية""صالح سرية"بمرشد الإخوان_آنذاك"الذي بايعه على السمع و الطاعة,و خطط له عمليته الإرهابية. بل أفشى بعض أفراد"الجماعة الدينية"الإرهابية التكفيرية_على إثر مراجعاتهم المعروفة_سر دور القيادي الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح_المنشق عن الجماعة ظاهرياً_في تأسيسها.نفس الشيء يقال عن كل التنظيمات الإرهابية الأخرى_بما فيها تنظيم القاعدة_إذ كان مؤسسوها من المنتمين إلى جماعة الإخوان؛و منهم أيمن الظواهري رئيسها الحالي. الانفصال عن الجماعة و إذ كشف الكثيرون من المنشقين عنها_كالخرباوي و مختار نوح و الزعفراني و غيرهم_عن كون هؤلاء المؤسسين أعضاء فيما عرف باسم"الخلايا النائمة"؛تلك التي تمارس نشاطها داخل مؤسسات الدولة العليا_كالجيش و الشرطة و القضاء و غيرها_دون أدنى شبهة في انتمائهم إلى الجماعة.و لا غرو؛فقد تولى بعضهم مناصب عليا_كنائب رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء و وزير العدل و رئاسة نادي القضاة على سبيل المثال_و ذلك قبل وبعد وصول الإخوان إلى السلطة. لذلك و غيره الكثير نرجح أن جماعة الإخوان المسلمين نتيجة تعرضها للمحن,و حرصاً على عدم حل الجماعة و حظر نشاطها السياسي أعلنت عن أن المنتمين إليها اقتصر نشاطهم على العمل الدعوي.أما عن النشاط السري السياسي العسكري؛فقد أوكل لأعضائها المنتمين إلى ما عرف باسم"جماعات الإسلام السياسي"التي بدى للعيان في الظاهر أنها جماعات لا تربطها أدنى علاقة بالجماعة الأم. ليس أدل على ذلك من مؤازرة قادة تلك الجماعات للنظام الإخواني الحاكم الذي أصدر عفواً عاماً عن المسجونين و المعتقلين من أعضائها.و لا غرو؛فقد شاركت تلك الجماعات بالدور الأكبر فيما جرى ولا يزال يجري من الأعمال الإرهابية بعد الموجة الثورية الثانية التي أطاحت بحكم الإخوان في 30 يونيو 2013. أما عن التعريف بأهم تلك الجماعات التكفيرية الإرهابية فهو ما سنعرض له في المقال التالي.