كمؤرخ استوعب تاريخ البشرية، ووقف علي قوانين حركة التاريخ، وأحاط علما ودراية بثورات الشعوب ضد الطغاة والغزاة، وخبر كيفية قيام الدول وأسباب سقوطها، يمكن – دونما رجم بالغيب أو قراءة الطالع وما تشي به حركة الأفلاك والنجوم – أن يتنبأ بالمستقبل تأسيسا علي قواعد نظرية وتجارب تاريخية، ولا غرو، فثمة علم مستقل بذاته له أصوله ومناهجه وموضوعه، عرف باسم «علم المستقبليات»، وإذا كان ظهور هذا العلم حديثا فإن جذوره موغلة في القدم، حيث أسهم حشد من المؤرخين الأفذاذ في التأصيل له من خلال دراسة «فلسفة التاريخ وحسبنا الإشارة إلي المؤرخ اليوناني الشهير «ثيكوديديس» الذي تنبأ بسقوط إمبراطورية الفرس علي يد الإسكندر الأكبر المقدوني، أما المؤرخ الإسلامي «ابن خلدون» فقد أفرد فصولا ضافية عن قيام الدول وأسباب سقوطها، ونحن في غني عن سرد نظرية «كارل ماركس» التي تقول بحتمية التغيير الكيفي، نتيجة التراكم الكمي.كذا عن نظرية «التحدي والاستجابة» «لأرندولد توينبي» المؤسسة علي حقيقة أن لكل فعل رد فعل، فكلما ازدادت التحديات ضراوة، ازدادت الاستجابات لمواجهتها نجاحا، وهذا يعني الأسباب المؤدية إلي الثورة تدفع إلي حتمية التغيير، قد تفشل بعض الثورات عدة مرات، لكن ذلك لا يعني القضاء عليها، بقدر ما يؤجج نيرانها ويذكي وعي الثوار نتيجة الإفادة من دروس الإخفاقات السابقة، بما يؤكد نجاحها الحتمي أخيرا، فيما عرف باسم «الاستجابة الذهبية». العسكر والإخوان تأسيسا علي ذلك – وغيره كثير – نستطيع ليس فقط كمؤرخ يعي دروس التاريخ، بل كمشارك في ثورة 25 يناير، ومن قبل في الدعوة إليها، إذ تنبأت بتوقيت قيامها، وتحديد قوي طليعتها الثورية، والتنبيه إلي الأخطاء التي حالت دون نجاح موجتها الأولي، والأهم من ذلك كله تحديد شهر يونيو سنة 2013 – في مقال نشر ب «الأهالي» منذ خمسة شهور – لاندلاع موجتها الثانية التي يؤكد هذا المقال حتمية نجاحها، وإليكم البيان: سبق أن كتبنا عن الصراع بين العسكر والإخوان المسلمين – بعد تحالف مؤقت لوأد الثورة في مهدها برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية – وأن نتيجته ستكون لصالح الإخوان، لا لشيء إلا لدعمهم من قبل الأمريكان لأسباب عددناها في مقالات سابقة. كما أثبتنا أن استئثار الإخوان بالحكم قمين بتعرية وكشف الكثير من مواطن الزيف والإتجار بالدين، فضلا عن العجز السياسي والإداري في مواجهة التحديات الاقتصادية وحلحلة المشكلات الاجتماعية المتراكمة والموروثة عن النظام السابق، وهو أمر يعجل باندلاع الموجة الثورية الثانية، والأهم تأكيد نجاحها للأسباب الآتية: أولا: أثبت العام المنصرم الذي تولي خلاله الإخوان الحكم أن رئيس الجمهورية غير مؤهل لحكم مجرد مدينة أو قرية من قري مصر، إذ يفتقر إلي أوليات السياسة، فضلا عن هيبة الرئاسة، وهو ما ظهر جليا في خطبه المجلجلة والجوفاء في آن، بحيث أصبح موضوعا للنكات والسخرية وفناني الكاريكاتير وكتاب الأعمدة في الصحافة، بصورة لم تتأت لحاكم من قبل في التاريخ، وما يعنينا هو أن سقوط هيبة الرئيس معناه سقوط هيبة الدولة، وخاصة إذا كانت مصر التي قدمت للبشرية أول أنموذج للدولة المركزية، والأهم أن سقوط هيبة ومكانة مصر إذ أفضت إلي الفوضي في الداخل، فقد أدت إلي تضعضع مكانتها في الخارج. ثانيا: أثبتت حكومة الإخوان عجزا تاما في مواجهة المشكلات الاقتصادية، لا لشيء إلا لاختيار رئيسها ووزرائه من أفراد الجماعة – أو الموالين لها – ممن لا دراية لهم بأوليات الاقتصاد السياسي، اللهم إلا اللجوء إلي الاستدانة، أو رهن قوي الإنتاج، أو الشطط في فرض الضرائب، ولا غرو، فقد ارتفعت الأسعار، وانخفض سعر الجنيه المصري، فتعاظمت الأزمة المالية، ومن ثم الأزمات الاقتصادية. ثالثا: ازدادت الأحوال سوءا نتيجة ارتفاع معدل البطالة، وتوقف مئات المصانع عن العمل، وتفاقم ظاهرة إضراب واعتصام حشود العمال والمهنيين والموظفين، والعجز عن توفير المواد البترولية، بما أفضي إلي ارتباك لم تشهده مصر من قبل سواء في المواصلات أو في المياه والكهرباء، وما نجم عن ذلك من فوضي اجتماعية، وخلل في الأمن العام وتعاظم الأعباء علي المواطنين. رابعا: انطلاقا من أيديولوجيا دينية قاصرة وضيقة ومتخلفة، انعكس الحال علي السياحة، ففقدت الخزانة موردا ماليا مهما، فضلا عن إفقار الملايين من المشتغلين بها، من المنظور الديني ذاته، وجريا وراء مخطط «التمكين» للجماعة، جري تعيين وزير للثقافة – لا يعرف مجرد مصطلح الثقافة – اللهم إلا تنفيذ مخطط الجماعة في مسخ الهوية الوطنية، واستئصال شأفة الإبداع، ومصادرة الآداب والفنون باعتبارها رجساً من عمل الشيطان، وربما حوي هذا المخطط بيع «الموروث الثقافي» المصري – المادي والمعنوي – في الأسواق «السرية» بالخارج!! فشل إقليمي وعالمي خامسا: الإخفاق الذريع في السياسة الخارجية علي المستوي الإقليمي والقومي والعالمي، ولا يخالجنا شك في التواطؤ لتنفيذ المخطط الصهيوني – الأمريكي في حل المشكلة الفلسطينية علي حساب التراب الوطني في سيناء، ناهيك عن تدهور العلاقات مع دول الخليج العربي من جراء تحقيق أحلام «طوبوية» في إحياء الخلافة الإسلامية، والأنكي تفاقم العلاقات مع دول حوض النيل الإفريقية، بما يهدد موارد مصر المائية، والتعامل مع تلك المعضلة – المهددة للوجود المصري – باستخفاف أقرب ما يكون إلي الحماقة. تلك الحقائق الصادعة والمؤسفة مجرد غيض من فيض يشي بعجز النظام «الإخواني» الحاكم عن إدارة شئون البلاد علي كل المستويات من ناحية، ويشكل تراكما كميا زخما يحفز علي اندلاع الموجة الثورية الثانية والمظفرة، من ناحية أخري، ويرجع ذلك إلي عدة عوامل نوجزها في الآتي.. الوعي الثوري أولا: تعاظم الوعي الثوري نتيجة استيعاب الطليعة الثورية دروس إخفاق الموجة الأولي، والأهم، يكمن في الاصطفاف الوطني بين القوي السياسية، والتحامها بالثوار من الشباب الواعي الذي أبدع – كعادة المصريين في ثوراتهم عبر عصور التاريخ – نماذج مستحدثة من النضال الثوري، تمثل خصوصا في حركة «تمرد» التي احتضنها المصريون علي اختلاف توجهاتهم السياسية، لتكون «قاطرة» الموجة الثورية القادمة. ثانيا: تعاظم الغضب الشعبي، خصوصا بين القوي المنتجة من العمال الذين شكلوا نقاباتهم المستقلة، والفلاحين الذين عانوا الأمرين من جراء نقص المياه وما ترتب علي ذلك من موات المزروعات والغروس، الأمر الذي أفضي إلي خسائر فادحة، ناهيك عن المشكلات الخاصة بالأسمدة والبذور والتسويق وما شابه، كذا تدهور أحوال الحرفيين والمهنيين، نتيجة تزايد معدل البطالة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بدرجة تهدد بالمجاعة، لذلك – وغيره كثير – نؤكد أن الغضب الشعبي عم جل أفراد الشعب المصري، الأمر الذي يشي بمشاركتهم في ثورة «اليوم الموعود» ناهيك عن استعداء مؤسستي القضاء والإعلام. ثالثا: إفاقة المثقفين بدرجة تجعل من مشاركتهم في الثورة من أهم عوامل نجاحها، ولا يخفي دورهم في إذكاء الوعي الثوري، ونجاحهم في فضح «الغطاء الديني» الزائف لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من بعض التيارات الإسلاموية المتطرفة، كتنظيم الجهاد والجماعة والإسلامية، ناهيك عن وقوع تصدع في كيان جماعة الإخوان نفسها، خصوصا من قبل شبابها الواعي، وبعض قياداتها المستنيرة، والأهم انسلاخ الكثير من التيارات السلفية عن تحالفاتهم مع الإخوان، بعد استئثار الأخيرين بمغانم السلطة، ونقض العهود وإخلاف الوعود. رابعا: غضب الأقباط من سياسات النظام الحاكم المؤسس علي الطائفية، وتعرض كنائسهم للإحراق، وشبابهم للاستشهاد دون أن يحرك الإخوان ساكنا، اللهم إلا المزيد من إضرام نيران التعصب الديني والنزعات الطائفية، لذلك – وغيره – سيشاركون في الموجة الثورية الثانية بصورة أكثر فاعلية، ناهيك عن التأييد المطلق لجماعات الطرق الصوفية للثوار وعقدهم العزم علي المشاركة إلي حد استخدام السلاح إذا لزم الأمر. الموقف الأمريكي خامسا: تخلي الولاياتالمتحدة عن تعضيد النظام الحاكم بعد فشله الذريع في الحكم، بما يهدد المصالح الأمريكية، ولعلها تراهن علي الجيش المصري الوطني كبديل منتظر في هذا الصدد، ولا يخالجنا أدني شك في انحيازه إلي الثوار، خصوصا إذا ما لجأ النظام الحاكم إلي العنف المسلح في مواجهة أحداث «اليوم الموعود» ينسحب الحال بالمثل علي رجال الشرطة، خصوصا بعد إعلان وزير الداخلية عدم التدخل، اللهم إلا في حماية مؤسسات الدولة. خلاصة القول، إن جميع الشواهد تنهض دليلا علي أن الموجة الثورية الثانية التي ستندلع يوم 30 يونيو ستحقق نجاحا مظفرا ينذر بسحق «خفافيش الظلام» العمياء الملتحفين بستار الدين، والإسلام منهم براء، والغد لناظره قريب.