تنطوي دعوة السلطة للحوار مع قوي المعارضة علي خصيصة تميز الخطاب الإسلاموي المعاصر، ألا وهي «المماحكة»، وتعني عدم الإيمان بالحوار أساسا، إنما تتبعه أسلوبا – رغم سذاجته- للتغطية علي سياسات مخططة ومرسومة سلفا تستهدف مصلحة «الجماعة» أولا، دونما اعتبار لمصلحة الوطن. فمن المعلوم أن مفهوم «الوطنية» ومفهوم «القومية» لا وجود لهما في الأدبيات الإسلاموية، باعتبارهما «بضاعة» غربية وافدة تستهدف الإسلام وشريعته. ومن ثم وجب مناهضتهما بكل السبل لوقف الغزو الفكري الصليبي من ناحية، وجمع شتات الأمة تحت راية «الخلافة الإسلامية»، من ناحية أخري. معلوم أن هذا الموقف المتعنت من فكر «الآخر» ليس موقفا سياسيا أو فكريا، بقدر كونه «عقديا» صرفا، سواء أكان هذا «الآخر» ذميا متربصا من الخارج، أو مسلما مغايرا للفكر الإسلاموي في الداخل. ولا غرو، فقد اعتبروا العلمانيين والليبراليين واليساريين الوطنيين أو القوميين «عملاء» متآمرين. والأنكي، اعتبار تآمرهم ليس موجها ضدهم كجماعات أو أحزاب «ذات مرجعيات إسلامية»، بقدر كونه موجها ضد الإسلام، عقيدة وشريعة، نظاما وسياسات نحن في غني عن برهنة هذا الحكم، لا لشيء إلا لثبوته في أدبياتهم بقطع وجلاء. إذ من المعروف أن المرحوم حسن البنا فهم مبدأ «الشوري» الإسلامي فهما خاصا، مؤداه أن التشاور «في الأمر» لا يعني إلزام الإمام باتباع رأي الأغلبية. بل علي الجميع الالتزام بالطاعة العمياء لرأي الإمام، طالما أقروا ببيعته. وهذا يعني بداهة تحريم وتجريم نقده حتي لو أخطأ في سياساته. وفي هذا الصدد قدم الأستاذ ثروت الخرباوي- المنشق عن الجماعة لهذا السبب بالذات- الكثير من الوقائع التي جري بسببها شلح وطرد كل من تجاسر بنقد تلك السياسات، مهما كانت مكانته وبلاؤه في خدمة الجماعة. بديهي أن يتعاظم هذا الخطب في فكر المرحوم سيد قطب التكفيري المتطرف، وما ترتب عليه من ظهور تنظيمات الجماعة الدينية، وجماعة التكفير والهجرة، والجهاد وغيرها. لقد تحدد سبب الانشقاقات والتحزبات اساسا في الاختلاف في الرأي بصدد قضية ما، إذ لم يفهم الخلاف في إطار «الصواب والخطأ»، بل كان في إطار «الحلال والحرام» أولا، ثم يتطرف ليكون بين «الكفر والإيمان»، ومن ثم يتخذ طريقه إلي استباحة الدماء!! وهو ما حفز بعض الدارسين إلي تشبيه تلك الجماعات بفرق الخوارج. ونري – من جانبنا أن التكفير عند الخوارج كان أخف وطأة لأنه «كفر نعمة» لا «كفر ملة» وكفر النعمة يأتي من المؤمن الذي يرتكب أفعالا تدخل في عدم ادراكه للنعم التي أنعم الله بها عليه وهذا الكفر أخف بكثير من كفر الملة الذي يعني الخروج علي العقيدة أي عدم الإيمان بالله. أما الجماعات السلفية، فعلي الرغم من عدم قولها بتكفير الخصوم، لكنها تصادر بالمثل علي «الحوار». ذلك لكونها نهلت من فكر «ابن تيمية» الذي حرم وجرم من قال بمبدأ «الاجتهاد»، اللهم إلا اجتهاده فحسب. ولا غرو، فقد ندد بكل الفقهاء، باستثناء الإمام أحمد بن حنبل، والذي لم يكن فقيها- بقدر ما افتي في بعض المسائل دون التأليف في الفقه- بل محدثا ليس إلا. وعلي يد محمد بن عبد الوهاب تجمد فكر ابن تيمية وازداد تطرفا تحت تأثير «البداوة». ولم يقدر لدعوته الانتشار إلا بالسيف- كما هو معلوم- حيث اتخذ محمد بن سعود من مذهبيه ايديولوجية قهرية لتأسيس الدولة السعودية. ومعلومات أن السلفيين المعاصرين وهابيون قحاح اختزلوا الإسلام في مسائل هامشية – كهدم الأضرحة والنقاب وما شابه- وها هم الآن يعولون علي فرضها بالجبر والقسر، فأني لهم بآلية «الحوار»؟. وعندنا أن ما يقوم به بعض شيوخهم- حاليا- من الدعوة إلي الحوارب محصن «مماحكة» ليس إلا. فالبعد السياسي- لخلافهم مع جماعة الإخوان بسبب استئثار الأخيرين بالسلطة – يجب الجانب العقدي بامتياز. مناورات سياسية خلاصة القول، أن الدعوة إلي الحوار من قبل الإسلامويين المعاصرين- بجميع فصائلهم- ما هي إلا «دعوة حق يراد بها تغطية باطل»، أو بالأخري «محض مناورات سياسية ساذجة» بعد افتضاح مآربهم في وأد ثورة 25 يناير، واكتشاف عوراتهم نتيجة «الاتجار بالدين» من أجل السلطة. فلنحاول إثبات تلك الحقيقة عمليا، وذلك من خلال وقائع الثورة التي ركبوا موجتها الأولي فوصلوا إلي السلطة» وهي وقائع معروفة لدي الخاص والعام. يعلم الجميع كيف انتهز قادة الإخوان المسلمين فرصة التئام الكثير من القوي الوطنية لمواجهة «النظام السابق» الذي احتوي السلفيين وتعهد له الإخوان بمباركة الثوريث- وشاركوا فيما جري من حوار. فلما اندلعت الثورة، أعلن السلفيون والجماعة الدينية – وحتي الأزهر- عدم مشروعيتها، باعتبارها خروجا علي «أولي الأمر»، بينما تريث الإخوان إلي حين، ثم انضموا إلي الثوار حين لاح نجاحها وشيكا. وحين دعا «نائب الرئيس» السابق إلي حوار مع قادة القوي الوطنية، اتفق الجميع علي رفض الدعوة، باستدعاء قادة الإخوان الذين التحقوا بالحوار سرا، ويفهم من سياق الأحداث التالية أن اتفاقا جري – بمباركة الولاياتالمتحدةالأمريكية- لوأد الثورة في مهدها، علي إثره انسحب الإخوان من ميادين الثورة، فكانوا «آخر من التحقوا بالثوار، وأول من بارحهم». حوار مع أمريكا يفهم من سياق الأحداث أيضا- بعد خلع الرئيس وتولي المجلس العسكري إدارة البلاد- أن عزم الولاياتالمتحدة علي أيلولة الحكم للإخوان- لأسباب سنعرض لها في مقال آخر- صار أمرا واقعا جري تسويقه في سرية صارمة. وما يعنينا أن الإخوان المسلمين في الوقت الذي قطعوا فيه الحوار مع القوي الثورية، فتحوا «حوارات» أخري سرية وعلنية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، انتهت بتسنمهم السلطة بالفعل. وإذا أظهرت الجماعة عجزا واضحا في إدارة شئون البلاد، وفي الوقت ذاته دأبت – دون كلل- علي «أخونة» الدولة واحتكار السلطة- وهو ما أثار الخلاف مع السلفيين- التأمت قوي المعارضة الوطنية، وانتفض الثوار في الميادين تحت شعار «الثورة مستمرة»، عندئذ دعا رئيس الجمهورية إلي الحوار مشترطا لقاء بعض قادة الأحزاب كلا علي حدة، وتم له ما أراد. وتوقع الجميع أن يسفر عن قرارات تتبني مطالب الثوار، ولهول المفاجأة، أصدر إعلانا دستوريا مباغتا، يجعل منه «فرعونا» جديدا من ناحية، وينتهك القوانين والإعلانات الدستورية السابقة ويحصن قراراته «الشاهانية» بصورة فاضحة، بما أسفر عن انتفاض معظم القوي الوطنية ومؤسسات الدولة – كالقضاء والإعلام خصوصا- وأثار ثائرة الثوار في ارجاء مصر كافة. مرسي ومرسي عندئذ، كانت الدعوة إلي الحوار مرة أخري، ذلك الذي كان أشبه بحوار الطرشان. ففضلا عن كون المشا ركين – في الغالب الأعم- من فصائل التيار الإسلامي، حتي قيل «مرسي يحاور مرسي» كان من الطبيعي أن يسفر عن لا شيء، اللهم إلا ما ينذر ب «فاشية فرعونية» جديدة من مظاهرها، إصدار دستور يتسم بالعوار حتي في رداءة صياغته، واللجوء إلي العنف والبطش بالثوار بصورة غير مسبوقة، بما أسفر عن مئات من القتلي والجرحي، فضلا عن ملاحقة الثوار واعتقال الكثيرين من قادتهم، الأمر الذي أجج الثورة في جميع ربوع مصر، وفي مدن القنال الثلاثة علي نحو خاص. وإذ تعاظم الخطب، لم يتورع الرئيس عن إعلان أحكام الطوارئ التي لم تجد فتيلا، حيث جري انتهاكها بدرجة أودت بهيبة الدولة، وتعاظم الفوضي بدرجة افضت إلي «العصيان المدني»، وإعلان بعض المحافظات استقلالها، فضلا عن مناداة قطاع عريض من الجماهير بإسقاط النظام وتولي قادة الجيش إدارة شئون البلاد. عندئذ، تكررت الدعوة إلي الحوار، فلم يلحق به إلا قادة «العشيرة والأحباب»، فضلا عن بعض الانتهازيين من «مرجئة» العصر «أعوان من غلب» ليتشاوروا في أمر انتخاب مجلس النواب!! خلاصة القول، أن الدعوة إلي «الحوار» ليست في جوهرها إلا دعوة «للركوع والصغار» من لدن «طاغية جبار» يودي ب «المحروسة إلي طريق العار والدمار، أما الخلاص، فأمره معقود علي نضال الثوار. فماذا عن دعوة الإسلامويين إلي «نبذ العنف»؟ الاجابة يتضمنها المقال التالي.