لعلهم يدركون مغزي فشل الإسلام السياسي من حولهم عرضنا في المقال السابق لدواعي وأسباب حاجة النظام الإخواني الحالي إلي مراجعة أفكاره وتصوراته، ومن ثم سلوكياته بعد تسنمه السلطة، وأظن أنه في حيرة من أمره بعد تخبطه فيما أصدر من مراسيم وقرارات عشوائية عاين نتائجها السلبية وجب عليه أن يدركها ويراجعها، إذا ما رام الحفاظ لا علي السلطة فقط، بل واستمرارية حزب «الحرية والعدالة» كحزب سياسي، بل والحفاظ علي «الجماعة» ككيان دعوي له تاريخ، برغم اختلافنا بصدد تثمينه وتقييمه، وأحسب تلك «الحيرة» أمرا إيجابيا إذا ما جري دراسة أسبابها، وتشخيص كيفية تجاوزها، لا إطراحها ظهريا بدافع «الاستعلاء» الناجم عن إحساس بنشوة انتصار عابر تحقق عفو الخاطر، وفي ذلك كتب الفلاسفة مؤلفات عن أهمية الأزمات وحتي الكوارث في تصويب أخطاء التجارب السياسية، والانطلاق من كبوتها إلي آفاق جديدة. حسبنا الإشارة في هذا الصدد إلي مقولات المؤرخ «توينبي» عن ما أسماه «الاستجابة الذهبية» بعد إخفاقات سابقة لها في مواجهة «التحدي»، كذا التنويه بمقولة «فرانسوا مورياك»: «ليست مشكلة المرء في الحيرة، بل المشكلة أن يكون المرء بلا حيرة»!! تلك المقولات الحكيمة بالغة الأهمية، خصوصا فيما يتعلق بمشكلات مصر المتعددة والمعقدة والمتراكمة خلال أربعة عقود من الزمان، لم تعرف لها نظيرا في تاريخها الحديث، حتي في عصور الاحتلال العثماني والفرنسي والبريطاني، فنحن في غني عن سردها، لا لشيء إلا لأن معاناتها كابدها كل بيت مصري، إذ جرت عملية «تجريف» للجسد والعقل والوجدان والضمير، وفق مؤامرة نسج خيوطها الصهاينة والأمريكان لمسخ «الشخصية المصرية» وطمس معالم هويتها وقسماتها الإيجابية، بل العبقرية، دون مبالغة أو استغراق في غيبوبة «الشيفونية». ما يعنينا أن تلك الكارثة يعجز «إرهارد» – الذي أعاد بناء الاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية – عن إيجاد حلول ناجعة لها، لو قدر له مبارحة قبره!! بالمثل يعلن فرويد وأدلر ويونج وبياجية إفلاسهم في علاج أمراض نفسية معقدة ومركبة لم يرد بصددها ذكر في مؤلفاتهم عن «علم النفس الباثولوجي»، وماذا يفعل فلافسفة الأنوار – من أمثال بيكون وكانت وفولتير وهولباخ وأمثالهم – إزاء عقول أصاب المرض خلاياها، فغابت في أحلام اليقظة وخيالات الأسطرة، وإسرائيليات «السلف الطالح»!! أما لو عاد «برستد» إلينا، لتأسف معتذرا عن مقولته «مصر هي فجر الضمير»!! أي حل؟ أما والأمر كذلك، فهل تجدي مقولة الإخوان المسلمين – التاريخية المجلجلة – بأن «الإسلام هو الحل» في تقديم بلسم الشفاء؟ وهل ينجح الإخوان «الشاطر ومالك» في تحقيق «مشروع النهضة» – الذي لا نعلم عنه شيئا – في تقديم «رغيف الفينو» لجماهير الجياع – المخدرين – الذين صنعوا «بأصواتهم» كرسي العرش ليجلس عليه «أمير المؤمنين» الجديد؟، أظن – وبعض الظن إثم – ويظن المصريون – لأن بعض الظن حق بالبداهة – أن تحقيق هذا الحلم دونه خرط القتاد، دليلنا في ذلك ما آل إليه مصير السودانيين والصوماليين والباكستانيين والأفغان.. وهلم هلم، في ظل نظم «إسلاموية» زعمت أنها تطبق شرع الله. نحن نري أن المتشدقين – من الإخوان والسلفيين وفصائل الإسلام السياسي كافة – لا يدركون أوليات مفهوم «الشريعة الإسلامية»، وإلا لما أصروا علي النص في الدستور – المزمع إصداره – بأن «أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع» بدلا من لفظ «مبادئ»، لا «الأحكام» وقد سبق لنا نشر عدة مقالات في صحيفتي «الوطن» و«الأهالي»، ومجلتي «الدوحة» و«الهلال» بصدد موضوع الشريعة ومقاصدها، بما يغني عن التكرار والاجترار، واكتفي بسؤالين – في هذا المقال – أولهما: هل هناك أحكام قارة وثابتة ومؤكدة أجمع عليها فقهاء أهل السنة الأربعة؟، ثانيهما: ما العمل بالنسبة للقضايا والنوازل المستحدثة – وما أكثرها في مصر القرن الحادي والعشرين – التي لم يرد بصددها أحكام لا في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية ولا في متون الفقهاء؟ الشريعة في مخيالهم «المضبب» هي أحكام الحدود ليس إلا، وتطبيقها آنيا يخل بمقاصد الشريعة، وإذا ما بحثوا ووقفوا علي أحكام أخري، فكلها تتعلق بزواج «بنت التاسعة»، ونكاح «ما ملكت أيمانهم»!! نحن لا نعترض علي تطبيق الشريعة الإسلامية، بطبيعة الحال، بل نعارض تطبيق فهمهم لها كأحكام موروثة عن عصور الانحطاط، صاغها فقهاء السلطان وأذنابهم من فقهاء الحيض والنفاس، ونكاح الجان وتبرير الطغيان، ونحوها، ونتساءل: لماذا غضوا الطرف عن كتب أصول الفقه التي قعدت لمقاصد الشريعة، باعتبارها تشكل حجر الزاوية في الشريعة الإسلامية؟ وفي هذا الصدد أبلي فقهاء «السلف الصالح» – من أمثال الجويني والشافعي والشيباني والعز عبدالسلام والشاطبي وغيرهم – بلاء حسنا، يمكن التعويل علي ما قعدوه في قراءة مشكلات وقضايا واقعنا المعيش، وإعمال عقولنا في استنباط الأحكام المناسبة لحلحلتها. أغلب الظن أن فقهاء الإخوان المسلمين علي دراية بما نطرحه، لكنهم لأسباب سياسية يجارون حلفاءهم من السلفيين وجماعات الإسلام السياسي في فهمهم الخاطئ، لا لشيء إلا لحشدهم إلي جانبهم في الانتخابات القادمة، إنهم بذلك يغلبون المصالح الذاتية العابرة علي الفهم الصحيح للإسلام وشريعته التي لو أحسن إدراك مغازيها، لأصبحت صالحة – بحق – لكل زمان ومكان، وتلك آفة محورية في سلوكيات الجماعة، آفة توظيف الدعوة لخدمة السياسة. تلك الآفة تشكل قاسما مشتركا بين كل تيارات الإسلام الحركي السياسي المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، إذ نهلت من أفكار المرحوم حسن البنا الدعوية، ومن بعده أفكار المرحوم سيد قطب التكفيرية، فضلا عن الخبرات التنظيمية الحركية البارعة لجماعة الإخوان بوجه عام، وتشير أصابع الاتهام لكل تلك الجماعات بصلات مشبوهة مع الأمريكان، مفادها اختطاف ثورات ما اصطلح بتسميته – خطأ – بثورات «الربيع العربي»، وهو ما تحقق بالفعل – بطرائق سلمية – أوصلت تلك الجماعات إلي السلطة في المغرب وتونس ومصر، وسوريا في المستقبل القريب، وهو ما تنبأنا به في كتابنا: «الإسلام السياسي بين الأصوليين والعلمانيين» الذي صدر سنة 1994، وكان هدف الولاياتالمتحدة من وراء ذلك، هو محاصرة الثورة الإيرانية بعد أن قدمت أنموذجا لإسلام ثوري يتبني قيم العلم والعمل والاستقلال الذاتي والعدالة الاجتماعية، وفق مخطط سنعرض له فيما بعد في مقال خاص. وتعري الإسلام السياسي علي أن تلك النظم «الثيوقراطية» ما لبثت أن تعرت، رغم تشدقها بتأسيس دول مدنية حديثة، إذ أسفرت عن عجز تام في مواجهة المشكلات التي عانتها الشعوب في عهود حكام لم يتورعوا عن إعلان «عمالتهم» للولايات المتحدة، وربما إسرائيل، وعلي النهج نفسه سار العملاء الجدد، لكن في صيغة مستترة، ولا غرو، فقد برعوا في أسلوبهم السري المستتر، وأحكموا نظامه في السراديب والدهاليز وزنازين السجون، لكن شعوبهم – التي لم يفطن الأمريكان إلي حقيقة وعيهم – أدركت تلك الحيل والخداع، وها هي تفزع الآن معلنة عن استئناف ثوراتها رافعة نفس الشعارات التي نادوا بها خلال وقائع الثورة الأولي. والأهم، ما حدث من صراعات بين تلك الجماعات، فضلا عن داخل كل منها، طمعا في احتكار «الغنيمة»!! فهلا يستفيد النظام القائم في مصر من تلك الوقائع، ويعي الدرس جيدا ليغير من أساليبه ويجدد أفكاره؟ أحسب أن الفرصة لم تزل مواتية، وإلا فالمصير معروف سلفا، ففي المغرب، اندلعت انتفاضات «الخبز»، منددة بإيديولوجية المنظر «عبدالسلام ياسين» وحكومة «بنكيران» وفي تونس شجر الصراع بين السلفيين وحزب النهضة، وعبثا يحاول «راشد الغنوشي» رأب الصدع. وحتي المستنيرون داخل حزبه ما لبثوا أن تمردوا عليه، ملتفين حول العجوز الإسلامي المستنير «عبدالفتاح مورو» وجماعة «الإسلاميين التقدميين»، وفي السودان دالت دولة الغوغائي «حسن الترابي» لتندلع ثورة المهمشين والجياع، ونحن علي قناعة بنجاح تلك الانتفاضات، خصوصا بعد أن أدركت الولاياتالمتحدة خطأها الاستراتيجي، فرفعت يدها عن دعم الإسلاميين الجدد. أغلب الظن أن نظام الإخوان المسلمين في مصر قمين بإدراك تلك المتغيرات، لكنه – كما ذكرنا من قبل – في «حيرة» من أمره، وفي الوعي بها يكمن الخلاص، وإنا لمنتظرون.