سبق أن عرضنا لمرجعية سيد قطب, وتعويله في صياغة أيديولوجيته الإرهابية على قراءات في التراث الإسلامي_قديماً وحديثاُ_ذات طابع"تلفيقي"إذ نهل من فقه ابن حنبل النصي المنغلق, وفكر الغزالي السياسي المبرر للتسلط والاستبداد,و سلفية ابن تيمية المتعالية والرافضة لكل إنجازات سابقيه.هذا فضلاً عن نقله بل سطوه على منظومة المودودي المتطرفة والطوبوية. وليت الأمر توقف عند هذا الحد؛ فقد تلاقحت واختمرت تلك التيارات جميعاً داخل ذات عصابية متوترة,و عقل مضطرب متقلب الأهواء يتبنى طموحات نرجسية تفوق قدرات وملكات صاحبها,و نفس تمور بالغضب الشرير من جراء عقد نفسية نتيجة إخفاقات عاطفية متكررة.هذا بالإضافة إلى محنة لجماعة الإخوان المسلمين التي انتمى سيد قطب إليها,و أودع_ضمن قادة الجماعة_السجن؛ليكتب مؤلفه الأشهر"معالم في الطريق"إلى هاويته والجماعة في آن.إذ يعد هذا الكتاب بمثابة"مانيفستو"للإرهاب الإسلاموي إلى اليوم؛حيث أصبح"المرشد الأمين"لجماعة الإخوان المسلمين وكل الجماعات التكفيرية الإرهابية التي ولد ت من رحمها. آليات الخطاب لعل من المفيد قبل تبيان معالم الإرهاب في هذا الكتاب إيضاح آليات الخطاب القطبي وسماته ومنطلقاته, ومن ثم مقاصده.و في هذا الصدد؛لا مناص من الرجوع إلى ما سطره الصديق/محمد حافظ دياب في كتابه الفريد"سيد قطب_الخطاب والإيديولوجيا"؛لإبراز بعض السمات المهمة التي تشكل"مفتاح" محتواه؛على النحو التالي: أولاً: تأثير"مناخ"السجن في انفصال سيد قطب عن الواقع وما ترتب على ذلك من"عبادة النص والتجريد"كإطار وحيد للتفكير بين الجدران.و بديهي أن يقود هذا النوع من التفكير إلى"التكفير"لا لخصوم"الجماعة"فحسب؛بل لكل المجتمعات الإسلامية قاطبة؛باعتبارها تعيش طور"الجاهلية". ثانياً: لتقويض تلك الجاهلية؛لا مناص من برنامج للعمل"الحركي"تلتزم به"الجماعة"التي هي_في نظره_"طليعة البعث الإسلامي". ثالثاً: ضرورة تعويل العمل الحركي على"الجهاد"الذي يقتضي الإعداد والتعبئة بكل الوسائل والطرق المتاحة,و ذلك بالتركيز على"العمل السري".و لا غرو؛فقد تولى سيد قطب رئاسة الجهاز السري بعد الإفراج عنه عام 1964 مباشرة. رابعاً: بهدف جذب الأعوان والأنصار؛اتسم الخطاب القطبي بسمة"العاطفية"المثيرة,فضلاً عن البلاغة الأدبية المهيجة للانفعالات, و إثارة النزعات الدينية الكامنة في الصدور لتحويلها إلى طاقات مندفعة للفعل الإرهابي.و ذلك عن طريق تأويل آيات القرآن الكريم والحديث النبوي لخدمة الهدف المرتجى. خامساً: الخلط والمزج بين الواقعي والطوبوي؛بهدف تضبيب المتلقي وتحويله إلى طاقة يجري التحكم في توجيهها؛انطلاقاً من مبدأ السمع والطاعة العمياء. سادساً: تصوير الآخر على أنه"نمر من ورق"يمكن منازلته رغم قوته و التفوق عليه,انطلاقاً من الآية الكريمة"و كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة..".في ضوء تلك الآيات_و غيرها الكثير مما لا يتسع المقام لسرده_يمكن_في إيجاز أيضاً_رصد مفهوم الإرهاب في منظور ومخيال سيد قطب. افكار المودودي يكتسي مبدأ "الجاهلية" المستعار من فكر المودودي_أولويته في منظومة سيد قطب؛باعتباره الحافز الأكبر للجهاد.إذ يعني إدانة الواقع المعيشي,و وصمه بالانحراف عن نهج الإسلام.بل اعتبار جاهلية العصر"كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أكثر"؛لكونها شملت كل جوانب الحياة.و نحن نرى أن سيد قطب غير هذا المفهوم الذي قصره المودودي على التشرذم والفرقة؛فجعله مرادفاً للكفر.يقول:"يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم أنها مسلمة…لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها","و بهذا التعريف تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً". مبدأ الحاكمية عن المودودي أيضاً؛اقتبس سيد قطب مبدأ"الحاكمية"و إن أسبغ عليه تأويله الخاص.ليس أدل على ذلك من أن المودودي رفض قدسية الحاكم؛عن طريق الأخذ بمبدأ"الشورى"الذي اعتبره ملزماً,كذا قوله بجواز"الثورة"على الحاكم الجائر.أما سيد قطب فقد اعتمد حكم الأشعري_و من بعده الغزالي_بقدسية الحاكم ووجوب طاعته حتى لو كان فاسقاً,و ليس من حق الرعية مجرد نصحه.هذا على خلاف رأي الدكتور/محمد حافظ دياب بأن سيد قطب استعار مبدأ"الحاكمية"من الخوارج استناداً إلى قولهم"لا حكم إلا لله".و قد سبق لنا تبيان ما انطوى عليه فكر الخوارج السياسي من الإلحاح على مبدأ الشورى,كذا حكمهم بوجوب الثورة على الحكام الجائرين؛و هو ما طبقوه عملياً في الدول التي أقاموها ببلاد المغرب. أما عن آلية"التكفير"التي اعتمدها سيد قطب وأوجبها حتى على معاصريه من حكام المسلمين؛فلم يأخذها من فكر الخوارج؛لا لشيء إلا لأن تكفيرهم للمخالفين في المذهب لا يجوز إلا على مرتكبي الكبائر؛فاعتبروه لذلك"كفر نعمة"؛"لا كفر ملة"بينما كفر سيد قطب كل المغايرين في المذهب سواء"في أصول الاعتقاد وأصول الحكم,و أصول الأخلاق والسلوك,و أصول المعرفة أيضاً"..!!.لذلك؛يرى أن أية مخالفة لما شرع الله فهي كفر بائن,"فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله,لا يبقى لحظة واحدة على هذا الدين,و من أهل هذا الدين".لذلك أصاب الصديق المرحوم/جمال البنا حين ذهب إلى أن المفهوم القطبي للحاكمية يخالف جوهر الإسلام"فهو تجريد للعقيدة من مضمونها". أما عن مبدأ"الجهاد"في نظر سيد قطب؛فلا يعني إلا إقراره"الإكراه في الدين"بمجاهدة المسلمين وغير المسلمين على السواء؛باعتبارهم"أهل جاهلية". شوائب الجاهلية وتستلزم ممارسة الجهاد ضرورة تكوين"تجمع عضوي حركي"قوامه"عصبة مؤمنة"بوسعها مواجهة العالم بأسره بالقوة"لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها"..!! على تلك"العصبة المؤمنة"أن تتحرر أولاً من كل شوائب"الجاهلية المحيطة",و ذلك بالانعزال عن المجتمع,و إعداد العدة للجهاد,ثم إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية؛لتتولى هي قيادتها..!! فالجهاد من ثم فرض عين على كل رجل وامرأة,و نتائجه حتمية لصالح الإسلام؛"فلم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن…كانت محصورة في شعاب مكة…و كانت غريبة في زمانها…و تحف بها إمبراطوريات عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها,ولكنها مع هذا كله أحرزت انتصارات مذهلة". لقد بنى هذا التصور"الطوبوي"الحالم على اعتقاد سقيم بأن الكتلتين الشرقية والغربية محكوم عليهما بالفناء من جراء الصراع بينهما.عندئذ يتسنى للعصبة المؤمنة تحقيق السيادة على العالم بعد حرب خاطفة أشبه ب"نزهة عسكرية"..!!و لا غرو؛فقد زعم أحد مريديه_الحاليين_أن بإمكان هذه العصبة_التي يبلغ عددها عدد المسلمين في يوم بدر_متسلحة بنفس أسلحتهم_السيوف والحراب والسهام_أن تحرز النصر المبين..!! عندئذ تسود"الثقافة الإسلامية"ربوع العالم بأسره,و يتخلق مجتمع جديد_دار الإسلام_"قوامه الاجتماعي مستمد من التصور الاعتقادي".في ظل هذا المجتمع الإسلامي يعيش"أهل الذمة"متمتعين بالحماية وحرية العقيدة؛مقابل أداء الجزية التي تعفيهم من الجهاد..!! الخيال المريض إن هذا التصور الواهم محض تعبير عن خواء عقلي وخيال مريض وعماء مطبق في رؤية الواقع.بل يفوق كافة التصورات"اليوتوبية"التي عرفتها البشرية,منذ"جمهورية أفلاطون"إلى"المدينة الفاضلة للفارابي"إلى"أوقيانوسة كامبانيللا"إلى"يوتوبيا"سير توماس مور؛لا لشيء إلا لأن خيالهم الخصب لم يتجاوز مدينة بعينها,بينما كان الخيال القطبي الجامح يشمل العالم بأسره..!!.كما أن مدنهم الفاضلة كانت تنطلق من نزعة إنسانية أخلاقية تكرس الفضائل والمثل العليا؛و ليس الإقصاء والتكفير والإرغام على اعتناق الإسلام بحد السيف,كما تصور سيد قطب ومريدوه. أما وقد تبخر هذا الحلم القطبي؛فلم يتبقى منه سوى ميليشيات الإرهابيين الإسلامويين المعاصرين المتشبثين بأفكاره الشيطانية الكفيلة_على الأقل_"بعودة الإسلام غريباً كما بدأ". لذلك لم نبالغ حين حكمنا على كتاب"معالم في الطريق"_في دراسة سابقة_بأنه"غص بالتأويلات الخاطئة,و الرؤية الضيقة,و الأخطاء التاريخية الفادحة,و الاعتساف من أجل تبرير ما ساقه من تجديفات و"هلوسات" بعيدة عن المنطق,و بعداً عن الحقائق".