من يعايش الصعيد عن قرب وبعيدا عن الكتب، يكتشف كما هائلا من التجاهل المتعمد لهذا الإقليم مصحوبا باستسهال وسطحية ونمطية فى التعامل معه على مدار السنوات الطويلة الفائتة. فلم تمتد أبدا رياح التحديث إلى الصعيد خاصة الريف، فقد وقف القليل من هذه الرياح عند عواصم هذه المحافظات بل يصح القول عند الميادين التى تشغلها مبانى المحافظات. وهكذا ظل الصعيد المصدر الرئيسي لكل الصراعات القبلية والطائفية والتى تخفى وراءها صراعات طبقية ليست بسيطة ولا هينة فى إطار ثقافة مفرطة فى المحافظة والتقليدية. نحن أمام تركيبة غاية فى التفرد، تجمع بين تركيبة قبلية وعائلية صارمة خاصة كلما اتجهنا جنوبا، يصاحبها فى الغالب تباينات اقتصادية وطبقية واضحة بين القبائل وبعضها البعض، ويتم تغذيتها ودعمها بثقافة تميز بين القبائل على أساس الأصل والنسب والعلاقة بالأرض. لم تقترب الدولة المصرية بكل مؤسساتها فى يوم من الايام من هذه التركيبة، ولم تسع إلى إحداث تغيير جذرى فيها. فكل ما بنى من مؤسسات تعليمية وغيرها من مؤسسات حديثة عمل ومازال يعمل بشكل نمطى وتقليدى، ولايستطيع بل ولايرغب فى الاقتراب من إحداث أى تغيير ثقافى. بوضوح يمكن القول أن الدولة لم تكن موجودة فى الصعيد على الإطلاق تاريخيا لا على المستوى التنموى ولا حتى على مستوى إنفاذ القانون. وبالطبع مؤشرات الصعيد التنموية من حيث انتشار الفقر الذى يضرب أكثر من نصف السكان هناك خير دليل على ذلك. وحتى على المستوى الأمنى، ظلت الدولة بعيدة كل البعد تاريخيا عن إنفاذ القانون وتطبيق العدالة فى إقليم الصعيد، بل تركت إدارة الصراعات القبلية والطائفية إلى كبار العائلات عبر المجالس العرفية والتى تدلل على مدى غياب الدولة تماما عن هذا الإقليم. إن تطوير إقليم الصعيد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا يرتبط ارتباطا وثيقا برؤية متكاملة تسعى إلى العمل على محورين: المحور الأول هو تحديث الاقتصاد، فلايمكن الحديث عن تغيير ثقافى دون تحديث الاقتصاد تحديثا حقيقيا، فالناس لاتتقبل القيم الحداثية إلا إذا ارتبطت بمنافع مادية معينة خاصة فى إطار هذه النوعية من المجتمعات المركبة والمكبلة بالعادات والتقاليد. أما المحور الثانى فهو استراتيجية للاندماج الاجتماعى داخل الصعيد، تسعى إلى إحداث تغيير ثقافى جذرى فى منظومة القيم والعادات والتقاليد، تركز على الشباب والأطفال، وتستخدم كل الآليات بدءا من المؤسسات التعليمية مرورا بكل مؤسسات التنشئة الممتدة عبر الزمن من مراكز شباب إلى قصور ثقافة إلى المؤسسات الإعلامية محلية وغيرها من الآليات. يجب أن تعمل كل المؤسسات فى إطار رؤية متكاملة للتغيير الثقافى شريطة أن يتم البدء قبلها فى تحديث الاقتصاد الزراعى التقليدى والعمل على بناء بنية اقتصادية جديدة، قادرة على توفير فرص عمل وعلاج جذور الفقر فى هذا الإقليم الذى يشغله أكثر من ربع سكان مصر. هل هناك من يسمع أم إننا سنظل أسرى الاستسهال ومعذرة «الاستهبال» فى التعامل مع مشكلات الصعيد.