عاد الحديث عن مشروع توشكي للظهور مرة أخري بعد صمت طويل، ليثير تساؤلات حول الفشل وضياع الأموال، كما عاد التساؤل حول قانونية التعاقد، خاصة بعد الطعن علي عقد «مدينتي» وقانونية امتلاك أراضي الدولة بعد تخصيصها بأسعار بخسة، وكذلك ملكية الأجانب للأراضي الزراعية. فالسؤال الذي يعود للظهور بقوة هو: هل أعلن مشروع توشكي فشله النهائي؟ وهل تعيد الدولة النظر في سياساتها حول استصلاح الأراضي، وبيعها لكبار المستثمرين العرب والأجانب وهل تعلن حكومة الحزب الوطني أن سياساتها أهدرت أموال الشعب في مشاريع فاشلة، كما أعلن وزير الري أن الدولة أنفقت 7 مليارات جنيه في توشكي دون عائد. أحمد السيد النجار، الخبير الاقتصادي، أصدر كتابه الجديد "مياه النيل - القدر والبشر" عن دار الشروق منذ أيام ، ويتناول في فصله الثالث قضية "توشكي: بين سوء القرار وآليات صناعته وضرورة استكماله وإصلاحه". يشير النجار إلي أنه تم بيع مساحة ضخمة لأحد المستثمرين العرب بسعر الفدان 50 جنيها فقط، بينما تكلفت ميزانية الدولة أكثر من 11 ألف جنيه للفدان الواحد، تتضاعف إذا أضفنا تكاليف الاستصلاح وتأهيل الأرض للزراعة ، لكن لم يف المستثمر العربي باستصلاح 100 ألف فدان تم تخصيصها له في المرحلة الأولي في المشروع ، ولم يزرع سوي ألف فدان بعد 13 عاما من التسلم. تضليل الرأي العام يشير النجار في دراسته إلي أن مشروع تنمية جنوبالوادي (توشكي)، يعد نموذجا لسوء القرار وآليات صناعته معا، في واحد من المشروعات الكبري، وساعدت وسائل الإعلام الحكومية في تضليل الرأي العام وحتي الباحثين، وجعلت التوقعات من ورائه عالية، فقد أعلنت أن المساحات التي يتم استصلاحها من خلاله تصل إلي 3.5 مليون فدان، والكتلة السكانية التي سيستوعبها المشروع في النهاية 3 ملايين نسمة، مشيرا إلي أن تلك الوعود المضللة تلاشت سريعا، فتراجعت المساحة التي سيتم استصلاحها وزراعتها إلي نحو 540 ألف فدان ، وتكلفت بنيته الأساسية نحو 5483 مليون جنيه منذ بدايته عام 1996 وحتي منتصف عام 2007، بينما خفت أو انتهي الحديث الحكومي عن نقل كتلة سكانية ضخمة إلي المشروع ، مشيرا إلي أن الحكومة تحترف التهليل لمشروعاتها دون دراسات علمية وحسابات اقتصادية دقيقة. خمسون جنيها للفدان وأشارت الدراسة إلي أن نصيب الفدان من تكلفة البنية الأساسية يبلغ 10154 جنيها، وفقا للتكاليف التي تم إنفاقها حتي منتصف 2007، بما يعني أن التكلفة يمكن أن ترتفع إلي 15 ألف جنيه مع استكمال البنية الأساسية للمشروع في مرحلته الأولي، ومن الممكن أن تتضاعف إذا أضفنا إليها تكاليف الاستصلاح وتأهيل الأرض للزراعة. ويقارن بين سعر بيع الأراضي المستصلحة في مصر في الوقت الراهن، والتي تجاوزت 60 ألف جنيه للفدان من شركة "ريجوا" الحكومية في المناطق الداخلية التي تبعد 30 كيلو مترا غرب الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية، والتي تروي بمياه الآبار، وبين أراضي منطقة توشكي تروي بمياه النيل التي تعتبر الأفضل في نوعيتها ونقائها في مصر، وهذه التكلفة التي تبدو عادية تتحول إلي كارثة عندما يتم منح الأراضي لكبار الرأسماليين المصريين والعرب بأسعار رمزية 50 جنيها للفدان علي حساب المال العام. التكلفة الإجمالية وأوضحت الدراسة أنه عند إطلاق مشروع تنمية جنوبالوادي قدرت التكلفة الإجمالية له بنحو 305 مليارات جنيه مصري ، وهي تكلفة هائلة بكل المقاييس، لكن الأهداف التي كان من الممكن أن تحققها وهي زيادة المساحة المعمورة في مصر من 5 بالمائة في الوقت الراهن إلي نحو 20 بالمائة عندما يكتمل المشروع عام 2017، ونقل جزء كبير من الكتلة السكانية يقدر بنحو 3 ملايين نسمة إلي منطقة المشروع ، وزيادة الرقعة الزراعية بنحو 3.5 مليون فدان ، وإنشاء منطقة صناعية عملاقة جديدة ، تشكل إضافة ضخمة للجهاز الإنتاجي الصناعي المصري ، تلك الأهداف كانت تجعل من تلك التكلفة أمرا مقبولا ، خصوصا أنها موزعة علي عقدين من الزمن ولكن الذي حدث هو أن الحكومة قصيرة النفس والتي تتبني اتجاها يمينيا متشددا يميل إلي استبعاد أي دور اقتصادي للدولة حتي ولو بصورة مؤقتة. شروط مجحفة ويشير النجار إلي أنه تم تخصيص 250 ألف فدان في المنطقة لشركة كويتية لاستصلاح وزراعة الأراضي، و 430 ألف فدان لشركة المملكة للتنمية الزراعية التي يملكها الوليد بن طلال، وهو ما يعني تخصيص نحو 680 ألف فدان من أراضي مشروع تنمية جنوبالوادي لشركتين عربيتين، ووصف شروط التخصيص بالإجحاف لشعب مصر وحقوقه، فقد تم تخصيص 100 ألف فدان بنسبة 18.5 بالمائة من أراضي المرحلة الأولي ، وبسعر الفدان 50 جنيها للمشتري السعودي، والتي تستهدف استصلاح وزراعة 540 ألف فدان ، والتي أصبح المشروع كله مقتصرا عليها، وبعد مرور 13 عاما علي حصول الوليد بن طلال علي الأرض وبعد ثمانية أعوام من دخول المياه إليها ، لم يقم المذكور سوي بزراعة ألف فدان فقط ، من المساحة التي حصل عليها رغم وجود قرار حكومي بسحب الأراضي من المستثمرين غير الجادين وإعادة طرحها وتوزيعها. عقد إذعان وأشار النجار إلي إن العقد الذي أبرمته الحكومة مع الوليد هو بمثابة عقد إذعان وإهدار لكرامة مصر وللموارد الطبيعية المملوكة لأبنائها، متمثلة في الأرض والمياه بأبخس الأثمان ، وأوضحت الدراسة أن شروط العقد تلزم الحكومة المصرية بتشييد الفرع رقم 1 أي الترعة الرئيسية ومحطات الرفع اللازمة، وتتحمل تكاليف تشغيلها وصيانتهما، كما تلتزم بتوفير التدفق علي مدار اليوم وطوال أيام السنة ولا ينبغي إيقاف أو قطع المياه في أي وقت ولأي سبب مهما كان إلا في حالة وجود موافقة خطية من الشركة يتم الحصول عليها قبل شهرين من وقف إمدادات المياه. فإذا كان الفلاحون المصريون في وادي النيل يحصلون علي المياه بالتناوب، ويتم ضخ المياه في الترع الفرعية التي يتم الري منها لمده عشرة أيام يليها قطع المياه لمدة عشرة أيام ، لاعتبارات تتعلق بحفظ المياه وتوفيرها، ولكن هذه الاعتبارات لا تسري علي ابن طلال في تميز فج لصالحه علي حساب الفلاحين المصريين الذين يحملون علي أكتافهم عبء تسيير وتنمية القطاع الزراعي المصري الذي يسهم بحصة تصل لنحو 15 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ، ويقوم بتشغيل قرابة ثلث قوة العمل المصرية. أربعة قروش لمتر المياه وتوضح الدراسة حصول شركة ابن طلال علي المياه التي تضخ إليها بسعر أربعة قروش لكل متر مكعب من الخمسة آلاف متر الأولي التي يستهلكها الفدان أي تكون تكلفة الفدان نحو 200 جنيه طوال العام ، يرتفع سعر المتر إلي خمسة قروش لكل متر من الألف السادسة التي يستهلكها الفدان وتصبح تكلفة الفدان 250 جنيها ، أما إذا تجاوز استهلاك الفدان هذه الكمية فيصبح سعر المتر ستة قروش ، ولو قارنا هذه التكلفة بتكلفة حفر وصيانة بئر المياه للحصول علي المياه الجوفية للمزارعين المصريين الذين يقومون باستصلاح وزراعة أراضي الصحراء الغربية نجد أن تكلفة حصول ابن طلال علي المياه لا تزيد علي 5 بالمائة من تكلفة حصول المصريين الذين يزرعون بمياه الآبار الأقل نوعية من مياه النيل. لا سيادة كما أن العقد يسمح لابن طلال بزراعة أي نوع من المحاصيل دون موافقة رسمية مسبقة من مصر، ويعطيه الحق في استيراد أي نوع من البذور وفضائل النباتات وسلالات الحيوانات دون موافقة مسبقة ودون الخضوع لأي قيود تتعلق بالحجر الصحي، وهذه مأساة حقيقية ، لأنه لو قرر زرع محاصيل شرهه للمياه في منطقة مدارية شديدة الحرارة فإنه سيدمر رصيد مصر من المياه ويتسبب في كارثة للمزارعين المصريين، إلي جانب أنه لو قرر زراعة محاصيل تمنع زراعتها في مصر مثل الدخان أو حتي محاصيل المخدرات بدعوي استخدامها لأغراض طبية فأنه لا يمكن منعه. إعفاء المستثمر من الضرائب وفوق كل ذلك فإن وليد ابن طلال معفي من جميع الضرائب والرسوم لمدة عشرين عاما تبدأ بعد إنتاج 10 آلاف فدان من الأرض المخصصة للشركة ، ويسري الإعفاء علي المقاولين والعاملين الذين يستخدمهم في تنفيذ المشروع كما يحق له استقدام عمالة أجنبية والحصول لها علي تصاريح عمل غير مقيدة لمدة 3 سنوات تتجدد بصورة دائمة لنفس الفترة بدون تأخير، إلي جانب تضمن العقد أيضا أن يحصل علي الكهرباء بتكلفة مساوية لأقل المعدلات المدفوعة ، وهذا يعني أن قرار وزير الصناعة إلغاء الدعم علي الكهرباء المقدمة للشركات الصناعية لن يسري عليه، أي أنه حصل من المال والإنفاق العام كل شيء دون أن يدفع للدولة التي مولت إنشاء البنية الأساسية أي شيء. تسقيع الأرض ويوضح أن البند الذي تضمنه العقد ينص علي حرية ابن طلال في وضع جدول تنفيذ المشروع بناء علي إرادته المطلقة ، فانه تصريح رسمي له ب "تسقيع" الأرض وتعطيل زراعتها رغم ما أنفقته عليها مصر من الإيرادات العامة التي دفعها الفقراء والطبقة الوسطي في مصر، الأخطر في عقد الحكومة المصرية مع ابن طلال أنه يحق له تصريف مياه الصرف الزراعي في منخفض توشكي أو أي مياه جارية (يمكن أن تكون مياه صرف صناعي) في منخفض توشكي ، أو أي منخفض آخر من اختياره ، علي أن تقوم الحكومة المصرية بحمايته وعدم تحميله أي مسئولية فيما يتعلق بجميع الدعاوي أو التكاليف أو الخسائر التي يمكن أن تنشأ نتيجة ذلك!! التحكيم الدولي أما خاتمة الكوارث فهي المادة 13 من العقد، والتي تنص علي اللجوء للتحكيم الدولي طبقا لقوانين المصالحة والتحكيم الخاصة بالغرفة التجارية الدولية، في حال الفشل في حل الخلافات وديا خلال شهر، وهو ما يجعل بنود العقد المجحف والمهين لمصر ولحقوق شعبها هو الفيصل في العلاقة بين الحكومة المصرية وشركة ابن طلال. معالجة الآثار وتوضح الدراسة أن الطريقة الوحيدة لمعالجة الآثار المأساوية لمثل هذا العقد الفاسد هو التقصي وراء الأسباب والمصالح والعلاقات التي أدت لإبرامه ، وتمحيص الذمة المالية لكل من شارك في إبرامه، لكشف أي عمليات فساد وإفساد يمكن أن تكون وراء إبرام هذا العقد ، وعندما ينكشف ذلك فيمكن محاسبة المسئولين واستعادة الأرض باعتبار أن العقد نتيجة عملية فساد، أما إذا لم يتم التمكن من كشف أي فساد وراء الصفقة ، فإنه يمكن ابتكار وسائل مختلفة لاسترداد المال العام المنفق علي البنية الأساسية للأرض المعطلة، مثل فرض ضريبة تعطيل مورد طبيعي تطبق علي كل من يحصل علي أرض بغرض الزراعة ولا يزرعها ، ويمكن معالجة الأمر بشكل حاسم بإصدار قانون يمنع تملك الأرض عموما للأجانب أيا كانت جنسياتهم وبالذات الأراضي الزراعية وذلك لتصحيح هذه الخطيئة التاريخية.