تلهفت معرفة سر هذه المخرجة الموهوبة ساندرا نشأت، حين قدمت لنا، وبعفوية فاتنة ولماحة، فيلمها التسجيلى "خليك فاكر"، حول موقف أهالينا من مشروع الدستور، فهل إرادتى لهذه المعرفة فى محلها؟ وإذا كانت كذلك، أين إذن يقع هذا السر؟ فى تصميمها على رفض تزوير إرادة الجماعة المصرية؟ رغبتها فى التمرد على نظام كارثى زاد فى سخطنا؟ أم هى تترجم توق هذه الجماعة إلى الخبز والحرية والكرامة والعدل؟ خلال الاثنتى عشرة دقيقة التى استغرقها هذا الفيلم، استطاعت هذه الفنانة أن تتواصل مع بلدياتنا، أن تعبر عن مواجيدهم وأشواقهم وأحلامهم المتواضعة، وهم تلك السبيكة الحية، ممن لا يمتلكون سوى طهارة القلب، وعزم الاختيار، ووقدة الشوق إلى وطن آمن وعادل وعزيز. وبهذا المقتضي، طرحت ساندرا نشأت سؤالا عن الوطن وسؤالا عليه، حين أعادت خلق الكون المصرى الراهن، فى مشاهد تخترق التعبير والعلاقات اليومية، وتدمر ثرثرتها وسلطان دلالاتها المقطوعة عن دالها، معلنة نداء التبشير. ذلك أن الوطن إذا لم تتم مقاربته إبداعيا، فإن الطرح لن يكون سوى رهين الحرفية والنقل والوقائعية، وهو ما نبه إليه فيلسوف جماليات المكان جاستون باشلار، حين ذكر أن المكان الممسوك بواسطة الخيال، لن يظل مكانا محايدا، خاضعا لقياسات وتقييم مساحى الأرض، لقد عيش فيه. ومن أجل ذلك، سافرت ساندرا إلى الصعيد الجوانى وبحرى وسيناء ومطروح، وتوزعتها هناك الطرق والدروب والمسالك، يطل من شقوقها ذلك المصرى الطيب، بخشونة فقره الكريم، وحريته الشائكة، وزهاوة طلته رغم أى شيء. اختارت، عن عمد، الابتعاد عن الخبير الاستراتيجي، والناشط السياسي، والمتحدث الإعلامي، والمسئول الحزبي، ممن تزدحم بهم الصحف وشاشات التليفزيون وجلسات المساومة، وتوجهت إلى ربة المنزل العائدة من السوق، والفلاح المنحنى على أرضه، والعامل أمام أفران النار، والواقفين فى محطات الأتوبيس، والجالسين على المقاهي، لا فرق لديها بين مسيحى ومسلم، صعيدى وبحراوي، أو قروى وحضري. من هنا، لعله يتعين النظر إلى هذه التحفة الفنية، كمحاولة لتجاوز عتبة المبذول والمعاد، انطلاقا من تضفيرها لهذه التحفة بتسجيلات ليوسف وهبى ونجيب محفوظ وهدى سلطان ومحمد منير ومحمد طه، مع تعليقات نفاذة وردت على لسان أهالينا البسطاء، ما يشى بوقوفها على تخوم منطقة تنافذ ثرية، تجمع بين طياتها بنية شمالة: التاريخ والرمز والحدث المؤسس، لتصوغ نسيجها، وتجهر بهويتها. ففى لجاجة الزيف الشاخص، ما أكثر الأعمال التى حدثتنا عن أهالينا، فزادتنا رهقا، أعمال لم تستطع فيها نبرة الوجدان، فخرجت يفضحها رخص اللون، ويلفقها افتعال الحماس، ويلفها التوجه الجاهز عن وهم الأصالة. أسائل ساندرا نشأت، بلا سابق معرفة معها ولا لقاء: تراه الحلم لما يتفلت من أساره ويقترب من الأرض الوسيعة؟ عشق قانون الجاذبية كما الفقراء؟ طمى النيل تحمله بين مسام روحها؟ أم أنها محبة الأوطان قاسية؟