مدير مدرسة أشروبة: النظارة السوداء تسببت في غضب المحافظ    أحمد المسلماني يكشف تفاصيل لقاء الرئيس السيسي حول بناء الشخصية المصرية وإصلاح الإعلام    البنك المركزي: المعدل السنوي للتضخم الأساسي يسجل 11.6% في يوليو الماضي    محافظ المنيا يتفقد مشروعات تعليمية في بني مزار ويضع حجر أساس مدرسة جديدة    إصابة سوري في غارة إسرائيلية على جنوب لبنان    ميرتس: لا تغيير في سياسة ألمانيا الجوهرية تجاه إسرائيل رغم حظر السلاح    مقتل 3 مسلحين وشرطي في هجوم جنوب شرقي إيران    خاص - شكوى رسمية من الأهلي ضد جماهير الزمالك    التعادل السلبي يحسم مواجهة البنك الأهلي وغزل المحلة في الدوري    تغريدة محمد صلاح تدفع إسرائيل للتعليق على واقعة استشهاد سليمان العبيد    شتيجن يوجه رسائل مفاجأة بجماهير برشلونة بعد انتهاء أزمته    حسام حسن ل"جمهور الأهلى": بعتذر لكم.. وأنا كنت بهدى الاحتفال لمؤمن زكريا    الإسكندرية تحتضن المصطافين.. ازدحام الشواطئ مع نسيم البحر وحرارة 34    تغيرات المناخ عنوان الدورة الثالثة لبينالي القاهرة الدولي لفنون الطفل    بنك مصر يوقع بروتوكولا ب124 مليون جنيه لتطوير مركز رعاية الحالات الحرجة بالقصر العيني    مستشار رئيس كولومبيا يزور منشآت طبية بالقاهرة والعاصمة الإدارية لتعزيز التعاون الصحي    وكيل صحة المنيا يشدد على الانضباط وتطوير الخدمات الصحية    عبدالغفار: «100 يوم صحة» تقدم خدمات علاجية ووقائية متكاملة بالمجان بجميع المحافظات    التضامن الاجتماعي تنفذ 6 قوافل طبية توعوية لخدمة سكان مشروعات السكن البديل    «من سنة إلى 15 عاما»..السجن ل4 بتهمة سرقة «هاتف» بالإكراه في بنها بالقليوبية    68 غرزة فى وجه الأشقاء.. مشاجرة عنيفة وتمزيق جسد ثلاثة بالبساتين    كل ما تريد معرفته عن ChatGPT-5.. كيف تستفيد منه في عملك؟    موعد المولد النبوي الشريف في مصر 2025.. إجازة 3 أيام وأجواء روحانية مميزة    محمد الغبارى: ما تدعيه إسرائيل هو بعيد تماما عن الحق التاريخى    رنا رئيس تنضم ل أبطال فيلم سفاح التجمع بطولة أحمد الفيشاوي    أحمد عبد العزيز يحصد جائزة الإبداع والتميز بمهرجان همسة للآداب والفنون في دورته ال 13    ليست كل المشاعر تُروى بالكلمات.. 5 أبراج يفضلون لغة التواصل الجسدي    «فاطمة المعدول» الحائزة على تقديرية الأدب: أحلم بإنشاء مركز لإبداع الأطفال    "ملف اليوم" يكشف روايات الاحتلال المضللة لتبرئة نفسه من جرائم غزة    صاحبه الفرح الأسطوري ومهرها ب60 مليون.. 20 صور ومعلومات عن يمنى خوري    أمين الفتوى يوضح: المال الموهوب من الأب في حياته لا يدخل في الميراث    أمين الفتوى: لا يجوز كتابة كل ما يملك الإنسان لبناته لأنه بذلك يعطل أحكام الميراث    "الجلاد ستيل" يضخ 3 مليارات للتوسع في الإنتاج وزيادة حصته التصديرية    موعد صرف معاشات سبتمبر 2025.. اعرف الجدول والأماكن    هزة أرضية على بعد 877 كيلو مترا شمال مطروح بقوة 6.2 ريختر    بين المزايا والتحديات.. كل ما تريد معرفته عن السيارات الكهربائية    سعر مواد البناء مساء اليوم 10 أغسطس 2025    حجز متهم بإتلاف سيارة لتشاجره مع مالكها بالبساتين    أهمية الاعتراف الغربي ب "الدولة الفلسطينية"    أين هم الآن «معتصمو رابعة والنهضة» ؟    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    اندلاع حريق في "كافيه" بقليوب.. تفاصيل    تسجيل منتجي ومالكي العلامات التجارية حسب «الرقابة على الصادرات والواردات»    تأجيل محاكمة 29 متهما بالهيكل الإداري للإخوان    بروتوكول تعاون بين البنك الأهلي المصري وشركة "بيرنس كوميونتي"    الثلاثاء.. انعقاد ورشة عمل لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي بعنوان "الإعلام والتحليل الرياضي"    دخان حرائق الغابات الكندية يلوث أجواء أمريكا ويهدد صحة الملايين    عشان الجو حر النهارده.. 7 حيل ذكية لتبريد المنزل دون الحاجة لتكييف    النصر السعودي يتعاقد مع مارتينيز مدافع برشلونة    بيلد: النصر يتوصل لاتفاق مع كينجسلي كومان.. وعرض جديد لبايرن    الصحة تدرب أكثر من 3 آلاف ممرض ضمن 146 برنامجًا    الأزهر يعلن جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية الأزهرية 2025 للقسمين العلمي والأدبي    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 4 فلسطينيين في محافظة نابلس    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    الجيش اللبناني يغلق بعض المداخل المؤدية للضاحية الجنوبية    الهلال السعودي يعلن رسميًا التعاقد مع الأوروجوياني داروين نونيز حتى 2028    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة تحت السطوة الدافئة للفلسفة
نشر في الشروق الجديد يوم 14 - 01 - 2011

شكل الفيلسوف الفرنسى جاستون باشلار بالنسبة لقرائه أرضا معرفية خصبة، ولم تكتف الأرض، التى مهدتها أعماله المختلفة بالمعرفة الواقعية بل تجاوزتها لتؤسس فى الذاكرة سياقين مختلفين ومتناغمين فى آن، سياق يقوم على الواقع وآخر يوطده الخيال.
الحقيقة عند باشلار ليست حقيقة راسخة، بل قابلة للتعديل والتطوير، بالتالى هى حقيقة تواجه مستقبلها بحداثة فكرها، فليس من قوالب تؤطرها.
والخيال فى فكره الفلسفى بناء معرفة داخلية خصبة، يبدأ مع الإنسان منذ لحظة انطلاق احساسه بالأشياء التى تحيط به، وهى طفولته التى تُسجّل بعين الذاكرة مشاهداته مضافا إليها خيالاته عن تلك المشاهدات، وهى لحظة كامنة لا تنتهى أبدا بتجاوز الطفل لمرحلة طفولته، بل تستيقظ معه تبعا للحظات معينة، بالتالى هى معرفة كامنة، من الممكن استدراجها.
أسس باشلار لما يشبه مدينة أفلاطون الفاضلة، لكن أسس باشلار كانت تعمل على الداخل الانسانى بتناقضاته، أى أن جمهورية باشلار كانت حدودها، كما مسرحها الروح بما تمتلكه من براح، وفى حين طرد أفلاطون من مملكته الشعراء، مكتفيا بشعراء المثل الأخلاقية، الذين يكتبون قصائدهم لتعميم فكرة الخير فى العالم، وضع باشلار الشعراء فى منزلة عليا، معتبرا أن خيالهم يساهم فى المحصلة فى تأسيس العالم.
ومن هذا المنطلق وضع باشلار أحلام اليقظة فى مكانة سامية، وجعلها محور استرجاعات الطفولة، التى أسس أغلب دراسته الفنية الفلسفية عليها.
تأسس باشلار معرفيا على مسائل تعتبر بالنسبة لى غاية فى التعقيد، وقد حاولت بعد أن اطلعت على كتابه «جماليات المكان»، ومن ثم «شاعرية أحلام اليقظة: علم التأملات الشاردة» و«شعلة قنديل» وغيرها، أن أعود لقراءته فى الكتب التى سبق أن ألفها قبل أن ينتقل إلى فلسفته الجمالية والفنية، فقرأت «تكوين العقل العلمى»، و«العقلانية والتطبيقية» وتابعت تنقله ما بين العلم كمادة والخيال والذاكرة كمبادئ فنية فلسفية علمية فى قالب أقرب ما يكون إلى الشعرية، التى توطد العالم بالمعرفة، وانتبهت إلى تحول دراماتيكى عميق فى مساره، بالطبع لم يكن هذا الانتباه خاص بى وحدى، لكنه كان اكتشافا شخصيا لرصيدى فى قراءة واحد ممن اعتبروا الأكثر عصرية بين الفلاسفة.
تحول باشلار جاء بنقلة واحدة، ربما مهد لها، فى سياقه الفلسفى العلمى، لكنها كانت نقلة صادمة حتى بالنسبة لزملائه فى الكلية التى كان يقوم بالتدريس بها.
عندما قرأت «جماليات المكان» فى وقت مبكر من تأسسى الثقافى، انتبهت إلى جماليات أوسع مما أراده الكتاب، فقد شكل لى باشلار بشكل عام محرضا شعريا عميقا، إذ إن قراءاتنا لفلسفته، التى تستعيد ملاعب الطفولة وحقولها كجزء رئيس من العملية الانسانية والشعرية على وجه أكثر تحديدا، ومن ثم اشتغاله على محرضات استعادة الذاكرة لطفولتها، والكتابة تحت السطوة الدافئة لهذه الاسترجاعات، بالاضافة إلى ان باشلار نفسه كان يكتب صياغاته الفلسفية والنفسية العلمية بأسلوب أقرب ما يكون إلى كتابة قصيدة، متعمدا إلى استشهادات تتركز على مناطق القصيدة والشعر، وعمله على تمرين الذاكرة حتى تبقى فى سعى مستمر من أجل تحريض نفسها على لعبة التخيّل من خلال تحويل ما يحيط بها إلى لعبة شعرية بامتياز، مثل كتاباته عن الشعلة أو نور الشمعة وفلسفته، التى ترى أن مجرد وجودنا فى حالة وحدة مع الشعلة أو النار يحفز بنا انتقالة سريعة وهادئة فى آن من لحظتنا الراهنة إلى استرجاعاتنا العميقة لذواتنا، وبالتالى البحث عن الأماكن الأكثر أمانا فى دواخلنا، كما أن حالة الهدوء التى تعترينا أمام البحر بأمواجه، وتلك الحالة أو السؤال الذى يدفعه إلى خيالنا لحظة أمساك أصابعنا بقوقعة ما، والتى هى عند باشلار حالة تقود إلى المكان الأكثر أمانا على الإطلاق، ألا هو مكاننا الأول، أى بيت طفولاتنا.. كل هذه الحالات وغيرها كانت سببا مباشرا عندى لتحريض عميق على الحالة الشعرية والعيش بداخلها، وربما لهذا كان على أن أعيد اقتناء كتب باشلار بشكل دورى تقريبا، فعلى حواف كتبه التى تضمها مكتبتى كتبت أولى هوامش قصائدى التى عادة ما تميل إلى الجانب الإنسانى الأعمق من الأنا التى فى داخلى.
يرقص باشلار على تخوم القصيدة، راسما من فلسفته ممرا عميقا وهادئا وبتعبير أدق؛ فائق الأمان لوحدتنا كأشخاص، تدفعنا فلسفته نحو منطقة الإشراق بالوحدة والتنفس عميقا من خلالها، فهو يؤطر هذه الوحدة بكل مقومات سطوة اللحظة، وليست هذه اللحظة عابرة أبدا، بل هى ترتيب نفسى فائق الدقة للاستغراق فى أبد صغير يستدرج إلى سكونه البحر والماء والنار والأمكنة ومرايا الطفولة وكل استعادة ممكنة حتى تستطيع النفس استدراج حالة أمانها المطلق.
يدفعنا باشلار دفعا قويا، لكنه أيضا فى منتهى الشفافية نحو ايقاظ العالم من غفوته، يجمع كل العالم بين أيدينا لنهزه برقة، ومع ذلك تستطيع تلك الرقة أن تدفع العالم إلى الاستيقاظ، يحرضنا طوال الوقت على رسم حالة ألفة مع الكون، الذى ينطلق من نقطة صغيرة هى المكان، حتى لو كان هذا المكان ينطلق من عش طائر على شجرة، فى المحصلة هو بيت الطائر الأول الذى يرتكن إليه بعد كسره لغلاف بيضته، تماما كما هو مهدنا الأول لحظة خروجنا من الرحم إلى الحياة، اللحظة التى يراها بعض الفلاسفة لحظة تصادم عميق مع الخارج، يرسمها باشلار لحظة تصالح شفافة.
مع قراءاتى المختلفة لكتاباته، والتى دربت نفسى على استعادتها كثيرا، ولربما أستطيع أن أعكس الجملة وأقول إن نفسى دربتنى عليها لأنها ربما تجد فى قراءته متعة عالم آمن وهادئ، ومتعة قصيدة تستدرجنى أو أستدرجها، تعرفت نفسى إلى فلسفة مغايرة، فلسفة قد أقرأها وأنا أمام البحر فى سكون هادئ، تلك الفلسفة التى تنساب بنعومة بالغة لتصبح أفق لحظة أبدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.