إذا كانت "الليبرالية الجديدة"بمثابة إيديولوجية مستحدثة على الصعيد الفكري وسرى تأثيرها على المستوى السياسي بدرجة مبهرة؛ فقد كانت انعكاساً لتطوير النظام الرأسمالي فى الإنتاج على الصعيد الاقتصادي. وقد كان هذا التطوير بالمثل محاولة لتجديد صورته شكلياً ليس إلا.إذ ظلت مقومات الاقتصاد الحر المؤسس على الربح الفاحش واستغلال مقدرات الشعوب النامية بدرجة "متوحشة". والأنكى؛ ما جرى من تشديد إسار الهيمنة على تلك الشعوب؛ سياسياً نتيجة إرغامها على التبعية للقطب الرأسمالي -شاءت أم أبت -نتيجة إلزامها بربط مقدراتها ونظمها الاقتصادية والمالية بالمراكز الرأسمالية الرئيسية. إذ على الرغم من نهاية الاستعمار الاستيطاني وتحرر الشعوب؛ فإنها عجزت عن إحداث التنمية المستقلة والمستدامة؛ خصوصاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي,و تفرد الولاياتالمتحدةالأمريكية كقطب أوحد بالهيمنة على العالم.لذلك ظلت الدول النامية والمتخلفة بمثابة أطراف هامشية ومجال حيوي على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي للمراكز الرأسمالية الكبرى؛ ومن ثم تبعيتها السياسية؛ فكان استقلالها أمراً شكلياً ليس إلا. وإذا ما حاولت الانعتاق من طوق التبعية؛ تعرضت للحصار الاقتصادي,و ربما الغزو العسكري لتعود إلى الطاعة صاغرة.هذا يعني أن القطب الرأسمالي لم يفقد موارده من الخامات والمواد الأولية بزوال الاستعمار الاستيطاني؛ بل ظل يتحكم فى أسعارها ؛ بالقدر الذي يعيدها مصنعة بأسعار فادحة لأسواق تلك الشعوب. وهذا يعني أيضاً؛ أن الرأسمالية فى صورتها"الإمبريالية" الجديدة -و هي أقصى درجة لتطور النظام الرأسمالي -نجحت في"تدويل" الاقتصاد العالمي متخطية الحدود القطرية والقومية.كما يعني بالمثل تطور علاقات الاستغلال لمقدرات الشعوب فى صورة الهيمنة المالية عن طريق المؤسسات الإمبريالية المالية؛ كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي,فضلاً عن الهيمنة على المؤسسات التجارية,و عقد معاهدات واتفاقات تضمن استمرار التحكم فى الأسواق.و إذ أسفرت تلك الهيمنة عن تحقيق مجتمعات الرفاهية فى الغرب الإمبريالي؛ فقد تم ذلك على حساب إفقار الدول النامية.و تعد ظاهرة إثقالها بالديون وفوائدها الباهظة خير دليل على ذلك.و إذ استفادت نسبياً من تبعيتها الاقتصادية للمراكز الرأسمالية الكبرى عن طريق إنشاء بعض المصانع فى دول الأطراف تلك؛ فلم يكن تأسيسها إلا لاعتبارات تخدم مصالح الدول الكبرى؛ من قبيل الاستفادة من رخص أجور العمالة,أو القرب من الأسواق؛ هذا فضلاً عن ما يضخه الاستثمار فى تلك الأطراف من أرباح طائلة.بالإضافة إلى كون تلك الصناعات بعينها ينجم عنها أضرار التلوث للبيئة -كصناعة الأسمنت على سبيل المثال -بحيث تؤثر الدول الكبرى إنتاجها فى الخارج. كي تتحاشى الدول الرأسمالية الكبرى ويلات التنافس المفضي إلى الحروب فيما بينها؛ لجأت إلى نمط جديد لتقسيم العمل فى صورة الشركات متعددة الجنسيات؛ بما يضمن تحاشي الأزمات الاقتصادية والمالية الكبرى من ناحية,و إعادة هيكلة المؤسسات الرأسمالية بما يضمن أيضاً عدم تورط تلك الدول فى صراعات بين أصحاب رأس المال وطبقة العمال.و هذا يعني -كما ذكرنا سلفاً -أن جوهر النظام الرأسمالي ظل كما هو؛ حيث يحكمه قانون"التطور غير المتكافئ"المؤسس على الاستغلال من أجل المزيد من الأرباح؛ على حد تعبير عالم الاقتصاد المصري"سمير أمين".كما يسفر هذا النظام بداهة عن نقل أعباء الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي إلى البلاد النامية والمتخلفة؛ على حد قول الدكتور فؤاد مرسي. على أننا لا نوافقه الرأي فى أن تجديد الرأسمالية لنفسها قد ضمن لها الهيمنة على مصير العالم إلى ما شاء الله.و يبدو أنه تأثر فى ذلك بتصور"هنتنجتون"الذي طرح نظريته في"نهاية التاريخ"عن تلك الهيمنة.لكن ثمة مؤشرات تشي بنهاية الرأسمالية نفسها بدأت إرهاصاتها حالياً.منها -على سبيل المثال -أن احتكار الدول الرأسمالية فى الغرب للتفوق العلمي والتكنولوجي إذا كان قد أطال فى عمر النظام الرأسمالي إلى حين؛ فقد ظهرت دول أخرى -كروسيا والهند والصين واليابان والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها -بلغت شأواً فى هذا المضمار, وتعاظم إنتاجها بحيث غزا أسواق دول الغرب نفسها.بل تراكم رأسمالها بدرجة مذهلة؛ فى ذات الوقت الذي بلغت ديون الولاياتالمتحدةالأمريكية قرابة 17 تريليون دولار. كما أعلنت بعض دول الاتحاد الأوروبي إفلاسها -كاليونان , وأسبانيا وإيطاليا فى الطريق -بل شهدت مئات المدن الكبرى فى أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية مظاهرات تندد بالنظام الرأسمالي,و قد تتحول قريباً إلى ثورات اجتماعية.لذلك لم أبالغ حين كتبت عدة مقالات فى صحيفة "الوطن" الكويتية فى أبريل ومايو سنة 1991 تحت عنوان:"أمريكا غير مؤهلة لقيادة النظام العالمي الجديد"؛ مفادها أن إمبراطوريتها رغم جبروتها ستسقط -و يسقط معها النظام الرأسمالي -بعد أربعة عقود.و قد كتب سمير أمين فى صحيفة"الوطن"المصرية منذ حوالي شهر ونصف مؤكداً على تلك النبوءة. لم تكن النبوءة من قبيل"الرجم بالغيب"؛ بقدر ما كانت قراءة"ماركسية"للماضي والحاضر,و استشرافاً للمستقبل.إذ كانت فحواها الإلحاح على"لا إنسانية"النظام الرأسمالي؛ بل اتسامه بطابع"التوحش". وحسبي الإشارة فى هذا الصدد إلى بعض مظاهر التوحش التي ضمنها الأستاذ محمد يوسف عدس فى كتابه"نهب الفقراء -الإنسان فى عالم التكتلات الاحتكارية".فتجارة السلاح فى الغرب الرأسمالي أصبحت تشكل أهم موارده المالية؛ بحيث أصبحت تقود اقتصادها فى مجموعه.و رواج هذه التجارة -المؤسسة على التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل -رهينة باندلاع الحروب؛ وإلا كتب عليها البوار. وهو ما يفسر سياسة الغرب الإمبريالي -خلال العقدين الماضيين وإلى الآن -في إشعال نيران الحروب بين الدول النامية والمتخلفة؛ كذا إثارة السخائم العنصرية والنزعات الدينية والطائفية بين بعضها البعض.كذا داخل نسيجها الوطني؛ بدرجة تهدد كيان"الدولة الوطنية"نفسه.و نحن فى غنى عن سرد ما جرى من صراعات دموية فى شرق أوروبا وأفريقيا وآسيا؛ أعادت رسم خرائطها الجيو -سياسية تماماً.و ما مشروع"الشرق الأوسط الجديد"إلا محاولة لتطبيق السياسة ذاتها فى العالم العربي.ناهيك عن الحروب التي خاضتها دول حلف الأطلسي فى أفغانستان وليبيا ومالي والعراق,و ما يجري فى سوريا حالياً. ولا أدل على بشاعة وتوحش الإمبريالية من احتكار صناعة وتجارة الدواء؛ بدرجة تسهم فى حصد أرواح البشر بصورة تفوق ما كانت تسفر عنه الأوبئة والمجاعات فى العصور الوسطى والحربين العالميتين فى العصر الحديث.و حسبنا الإشارة إلى أنموذج شركات"فارين الألمانية مع روكفلر الأمريكية"التي تجاوز نفوذها حكومات دول الغرب الكبرى.بل تعدى هذا النفوذ مجال الكسب المادي المذهل؛ ليتغلغل فى مجال السياسة ويتحكم فى توجيهها. خلاصة القول؛ أن التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل فى الغرب الإمبريالي إذا كان قد نجح فى إطالة عمر النظام الرأسمالي؛ فهو أعجز من الحفاظ على بقائه؛ لافتقاره إلى البعد"الهيوماني",و لأن حركة التاريخ تسير صعدا للارتقاء بوعي الإنسانية -كما تعلمنا من دروسه وعبره -فقد حكم على النظام الرأسمالي المتوحش بالفناء عاجلاً وليس آجلاً.و إذا كانت"الليبرالية الجديدة"مجرد غطاء إيديولوجي لهذا النظام لستر عوراته,و تجميل وجهه القبيح؛ فقد بلغت الشعوب عمر الحكمة والقدرة على التمييز بين الأصيل والزائف؛ وهو ما سنعرض له فى المقالات التالية