فات المعياد بعد فوات الأوان، والمعاندة ، والمكابرة، وإضاعة الفرص ، يتباكي قادة حزب المؤتمر الحاكم في الخرطوم حسرة علي الوحدة التي يقترب وقت العصف بها في التاسع من يناير القادم، حين يصوت الجنوبيون في السودان، في الاستفتاء علي حق تقرير المصير لصالح الانفصال كما هو متوقع، حتي لو لم يكن الجنوب يمتلك مقومات الدولة بعد ، لكنه يتأهل لها منذ توقيعه لاتفاقية «نيفاشا» للسلام مع الحكومة السودانية، قبل نحو ستة أعوام. قبل أسابيع من توقيع تلك الاتفاقية في عام 2005 ، كنت في الخرطوم اشارك في ندوة عن العلاقات المصرية -السودانية ، حين خاطب احد كبار المسئولين السودانيين الندوة مؤكدا ان الحكومة لن توقع علي تلك الاتفاقية لانها لو فعلت ، سوف يصبح مصير جنوب السودان هو مصير الاندلس بالنسبة الي العرب والمسلمين، وبعد اسابيع قليلة من هذا الخطاب كان نفس هذا المسئول ، علي رأس وفد الحكومة السودانية في «نيفاشا»، يوقع باسمها علي اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية برعاية امريكية واوروبية وافريقية، ومنذ تلك اللحظة باتت قضية الوحدة والانفصال خيارين مطروحين بالتساوي في الساحة السياسية، الا قليلا. اقدمت حكومة حزب المؤتمر الوطني الحاكم علي توقيع الاتفاقية وهي تظن انها تملك من القدرة علي المناورة ما يجعل الامور لا تسير نحو الانفصال دون ان تبدل السياسات التي يمكن ان تقود الي ذلك، فقد اكتفت من الاتفاق بغنائمه التي تمثلت في رفع سيف العزلة عن نظام الانقاذ الذي وضعته الادارة الامريكية - التي تم الاتفاق برعايتها- في لائحة الدول التي ترعي الارهاب، بعد ان امست الخرطوم في عقد التسعينيات الماضي، موطنا للمتطرفين الاسلاميين وبينهم اسامة بن لادن وجماعته والجماعات الدينية المصرية المتطرفة وغيرها من القوي الاسلامية المعارضة في بلدانها. كانت احلام السيطرة علي قيادة الحركة الاسلامية في الاقليم قد اخذت في ذلك الوقت تداعب الدكتور حسن الترابي الشريك الرئيسي في حكم الانقاذ ، ومهندس الانقلاب، الذي اوصله للسلطة، قبل ان ينشق علي شركائه في الحكم عام 1999 مكونا حزب المؤتمر الشعبي المعارض، لكن الدماء التي سالت ركضا وراء هذا الحلم والاموال التي انفقت، والسياسات التي اتبعت لقمع المعارضة في الداخل، ونصب المحاكمات الوهمية للتخلص من الخصوم، كانت قد وترت علاقات السودان بدول الجوار العربي والافريقي بعد ان اصبح تصدير ما سمي بالنموذج الحضاري الاسلامي هدفا لقادته، ولو بالقوة المسلحة، وفي هذا السياق جرت المحاولة الشهيرة لاغتيال الرئيس حسني مبارك في اديس ابابا في العام 1995. رفع قبضة العزلة الدولية عن النظام خارجيا وتقليل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه ، وتعزيز سلطة نظام الانقاذ الذي يعاني حزبه من الانشقاق والتفكك في الداخل هي الدوافع الحقيقية وراء قبول نظام الانقاذ باتفاقية السلام مع الجنوبيين، التي كان احد ابرز اخطائها تمسك نظام الانقاذ بان تكون اتفاقا ثنائيا بينه وبين الحركة الشعبية، مع ابعاد كل قوي واحزاب المعارضة الاخري عن ان تكون طرفا فيها، ذلك ان تفكيك قوي المعارضة، وابعاد الحركة الشعبية عنها وهي الطرف المسلح الوحيد بينها، كان ايضا احد اهداف الحكومة وهي تقبل بهذا الاتفاق. ومنذ اللحظة الاولي لتوقيعه، اختارت وزارة الخارجية الامريكية احدي الشركات الخاصة لتمنحها عقدا بنحو 40 مليون دولار للقيام بمهمة تدريب وتأهيل الجنوبيين لشكيل قوة عسكرية منظمة ومحترفة، وبعد رفع الحظر المفروض علي الشركات الامريكية للعمل في السودان توافدت عشرات من الشركات الامريكية علي الجنوب للعمل في مجال البحث عن مناجم معادن الحديد والذهب، كما قام عدد من رجال الاعمال الامريكيين بشراء آلاف الأفدنة من الأراضي في جنوب السودان. تصورت الحكومة السودانية انها بالدعم الامريكي والغربي غير المسبوق لاتفاقية السلام، انها غير مطالبة باستحقاقات في مجال التنمية خاصة مع تدفق البترول، ولا باتخاذ خطوات جادة في مجال الاصلاح السياسي والديمقراطي لاتمام مصالحة وطنية، ولا بالتخلي عن مشروعها في اقامة نظام اسلامي في دولة تحفل بالتعدد الديني والعرقي والثقافي، وهو ما قاد عمليا الي تمسك الجنوبيين بالمضي قدما نحو الانفصال.اضاعت حكومة الانقاذ كل الفرص لكي لا يكون الانفصال حتميا، كان بينها ما جري في الانتخابات الرئاسية الاخيرة، التي قال عنها المبعوث الامريكي الي السودان "سكوت جريشن " ان بلاده تعلم ان نتائج تلك الانتخابات كانت مزورة، لكن واشنطن قررت القبول بنتائجها للوصول الي"استقلال جنوب السودان"! ومع الاعلان عن نية هيئة الاممالمتحدة نشر قوات دولية تعزل بين الشمال والجنوب، ومع فشل المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية حول منطقة ابيي ، تطايرت تصريحات القيادة السودانية ، تلوح برفض اجراء الاستفتاء في موعده وتهدد بمواصلة الحرب وبحرمان الجنوبيين في الشمال من حقوق المواطنة، وتندد بدعاة الانفصال، وتتغني بفضائل الوحدة لكنه غناء يبدو نشازا لانه يأتي بعد ان فات الميعاد!